جهد كبير وجبار يقوم به مرصد الفتاوى التابع لدار الافتاء المصرية ويكشف حقيقة عن الصراع الدامي والمحتدم بلا توقف والرغبات المشتعلة في استغلال سلاح الفتوى الخطير وجعله نقطة مركزية ومحورية في ادارة الصراعات ليس فقط المذهبية بل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ايضا.والساحة العالمية تشهد موجات لا تتوقف في الاستغلال السيء للفتاوى واللعب بها وتطويعها لتحقيق اهداف خاصة.لذلك لم يكن غريبا اوعجيبا ان تحظى الفتوى باهتمام الجميع متدينين وغير متدينين ساسة وغيرهم قوى كبرى ومنظمات اقليمية هذا الاهتمام غير المسبوق ساهم بالفعل في ان تتحول الفتوى الى صنعة وصناعة ثقيلة تنوء بحملها مثل تلك المؤسسات الدينية الهشة او تلك التى تحصر نفسها في زوايا ضيقة وصحائف قديمة بالية لا تسمن ولا تغنى من جوع امام سعار العالم المعاصر والحديث.
لا احد يستطيع ان ينكر او يتغافل عما يجرى على الساحة من قضايا تستخدم فيها الفتوى لتأجيج الصراع او لشن حملات من الكراهية اوالحرب النفسية اوالتخويف والترهيب حتى من الاسلام نفسه وباسماء اسلامية في معركة الاسلاموفوبيا اياها..في حروب التنظيمات الارهابية بل وحتى صناعة تلك التنظيمات والترويج لها قائمة على فتاوى ضالة ومضلة وعمليات الاستعداء للمؤسسات الدينية الموثوق فيها ارتكزت ايضا على قواعد متحركة ومؤدلجة تجيد الرمي والقصف الافتائي بكل الطرق.
المتابع لنتائج الدراسات التى يقوم بها مرصد الافتاء خلال الاعوام الاخيرة والاحصاء السنوى الذي يقدمه سيكتشف بسهولة ان حمى الافتاء وسعار الفتاوي الملتهبة شاذة وغيرها ومفرخة انتاج مفتين على كل مقاس لا تزال تعمل بقوة ونشاط وبلا خجل في معظم الاحيان ولعل اكبر دليل على ذلك ان التطرف لايزال مستمرا ان عمليات التسخين بالفتوى وبعض المعممين الذي يرتدون عمامات مزيفة لاتزال على اشدها والمتابع لن يعدم اي جديد يوميا بل وكل ساعة..
الاحصاءات تؤكد زيادة رهيبة في عدد الفتاوى واشكالها واجناسها واطيافها حتى وصل العدد الى ملايين الفتاوى سنويا سيول جارفة من الفتاوى لا تتوقف اناء الليل واطراف النهار.
اهم واخطر ما في الموضوع ان التجربة كشفت عن حقيقة مؤلمة وموجعة بشدة وهي ان التنظيمات الضالة والمنحرفة لاتزال سباقة دائما الى استخدام وتوطيف ادوات العصر التكنولوجية والتطبيقات الحديثة والاختراعات والافتكاسات اياها على السوشيال ميديا لنشر افكارها بمرها ومريرها وهي بالتالي اسرع من اي جهة اخرى رسمية وحتى شعبية في محالوة الوصول الى الجماهير مستحدمة في ذلك كل ما هو متاح من ادوات الاغراء وجذب الانتباه من صور وفيديوهات وغيرها وفوق ذلك وهو الاهم الاتصال التفاعلى على مدار الساعة وباي لغة تريد قوة جبارة وتمكن وارادة وتصميم على الوصول الى الهدف مهما كانت التحديات والمعوقات والتهديدات وقل ما شئت ولذلك لا تتعجب ان تكون ضرباتهم اشد وجعا وايلاما وتجعل مهمة المقاومة والمواجهة شديدة الصعوبة والتكلفة ايضا ماديا ومعنويا.
من هنا تأتي اهمية النتائج التى اعلن عنها المؤشر العالمي للفتوى في المؤتمر الاخير لدار الافتاء عن التحول الرقمي والافتاء برئاسة فضيلة المفتي الدكتور شوقي علام.المؤشر قام بتحليل مليونين و600 ألف فتوى في 4 سنوات الماضية ورغم ضخامة الرقم الا انني اعتقد انه لو تم عمل مسح شامل للفتاوى في السوق العام والخاص لوصلنا الى كم مهول لايكاد يصدق نظرا للاعتماد على سلاح الفتوى في كل شيء في اصعب الامور وحتى اقلها شأنا وستجد نصيب المواطن الفرد من الفتوى يفوق اي معيار لاي شيء او خدمة يحصل او يريد الحصول عليها باضعاف مضاعفة..
عملية الرصد والمتابعة وحدها مسألة في غاية الأهمية ليس فقط لضرورتها في عملية الضبط والربط وكبح جماح الفتائيين بمناسبة وبدون ومن لهم الحق أو من الذين يمتلكون جرأة غير مسبوقة أو معهودة في التصدي للفتوى..ولكن لمعرفة حقيقة ما يجري وماذا يقدم للناس وكيف يتم اللعب والعبث بالعقول وتطويع الدين واستغلاله من قبل الجماعات إياها أو قوى سياسية بعينها تسعى لأهداف واغراض أخرى ولا يشغلها صحيح الدين من سقيمه..وكثيرا ما يكون اللغط وإثارة البلبلة والتشكيك والتشويش وما إلى ذلك أهدافا رئيسية ولا يخفى على كل أريب كيف تدار الصراعات بالفتاوى من الداخل والخارج ولا يتوقف الأمر عند حدود الصراعات المذهبية الواضحة ولكن يمتد لأغراض سياسية بعينها ويتم استخدام العاطفة الدينية لكسب انصار أو حتى لرد حملات أوالمشاركة فيها لإشعال جدالات حينا وفتن احيانا أخرى..
تلفت الدراسة النظر الى حصول مصر على موقع الصدارة في الدول الأكثر افتاء..وهذا مؤشر يمكن فهمه على طريقتين:
أما أن النشاط الافتائي ضرورة ملجئة وكان رد فعل لازم لمواجهة هجوم كاسح أو رد فعل مضاد لضغط افتائي غير مرغوب فيه..
وأما لأننا تحولنا إلى شعب فتاي..كثير الفتوى والشكوى يهرع الى طلب الفتوى حتى فيما لايجوز او ما يعد من باب التنطع او مما يجب الرد عليه ضربا او توبيخا او ان الامر مجرد ملهاة وشغل للعقول بما لا يفيد وكلام والسلام.
قد يسال البعض وما علاقة التحول الرقمي بحل ازمة الفتوى وهل يمكنه اصلاح المفتين والارتقاء بالمستفتين؟
والجواب ببساطة نعم يمكن بحدود وشروط فالرقمية ليست الحل في الاساس ولكنها جزء مهم في خطة العمل ومنهج المواجهة وادوات الاصلاح على عدة محاور وخاصة في المواجهة الفعلية والفعالة للفتاوى الملتهبة اوالملعوب في اساسها لاغراض في نفس يعقوب..الرقمية ستجلب لك بضاعو المفتين في كل الاسواق والمحاور والاتجاهات وتساعد في عملية التصنيف والفرز للصالح والطالح والفاسد والشاذ والغريب والمختلق والمضروب وغير ذلك .. يبقى الجزء الاهم والاخطر ما بعد التحليل والرصد والفرز والتصنيف.وهذا هو المعول عليه في عملية الاصلاح والتطوير وايضا جعلها محورا مهما في تطوير الخطاب الديني عامة والافتائي خاصة.
بعبارة اخرى الجزء الالي في الموضوع هو السهل يبقى الاهم والاصعب الجانب البشري فيما يتعلق بالمفتي والمستفتي الركائز الاساسية في صناعة الفتوى وهي صناعة ثقيلة كما قلنا..واذا كان جانب المستفتي سهلا ويمكن السيطرة عليه وترويضه وتعليمه ادب واداب المستفتي فان الازمة الحقيقية والمعضلة هي في شخص المفتى وبعضهم لا يزال خارج السيطرة او ضالا مضلا او مستغلا او مستغفلا او مضحوكا عليه او ضعيف النفس مستجيبا للاغراء ايا كان شكله او واقعا في غواية تنظيمية ولا يشترط مالية.والعمل على هذا الصعيد يحتاج الى جهود وجهود من كل المؤسسات بما يضمن ويكفل عملية تعليمة صحيحة وقوية وبرامج للتدريب على الفتيا ومناهج ومدارس حتى ما بعد التخرج من الكليات الشرعية لكيفية التعامل مع العصر ومستجداته ومتغيراته والتعرف على حيل المتحايلين وخبث ومكر الماكرين مسالة تحتاج الى دربة وتمرين وحكمة وحسن تصرف وومن ثم قدرة على الادراك وقراءة للواقع بطريقة صحيحة وواعية ..ويحتاج ايضا الى مؤسسات قويمة تتمتع بثقة عالية وغالية صاحبة راي وقول فصل في المسائل الخلافية عندما يستدعيها الوطن والمواطن على السواء بعيدا عن اي حسابات اوخوفا من اي محاسبات في الداخل او الخارج وبعيدا عن اي مؤثرات مذهبية اوعرقية وماشابه.
والله المستعان..
Megahedkh@hotmail.com