أي دور تلعبه الولايات المتحدة في أزمة السد يجب أن يكون وفق دعوة من أطراف الأزمة”. أنه لا يمكن حل أزمة سد النهضة عسكريا، وأن أفريقيا ليست في حاجة نشوب أي حروب جديدة. في ظل هذا الموقف الدولي المتخاذل، فقد حان الوقت لنكون حاسمين، ونبدأ التفكير الصحيح في كيفية التصدي لهذه البلطجة الإثيوبية، التي اكتشفنا أخيرا أنها محمية دوليا. في ظل نظام عالمي جديد يتشكل، تحدد القوى الكبرى،
ومن بينها روسيا، علاقاتها مع الآخرين وفق معيار قوة تأثير الطرف الآخر- إيجابًا أو سلبًا- في مصالحها، لا وفق معيار الصداقة والعلاقات التاريخية، أو التوافق في المواقف المعلنة دون فاعلية على الأرض؛ وبهذا الشكل يمكن فهم طبيعة تحالفات روسيا في المنطقة. روسيا ما زالت تتلمس طريقها في القارة الإفريقية،
وفي كل الأحوال لا تمتلك بعد نفوذًا يمكنها من فرض رؤيتها الخاصة لحل أي صراع، ولا سيما في موضوع معقد وممتد التفاوض فيه منذ عقد، مثل سد النهضة، ومصر فضلت منذ البداية الوساطة الأمريكية، وإثيوبيا لا تقبل بسوى الوساطة الإفريقية، وسواء أيدت موسكو موقف القاهرة أو أديس أبابا، فلن يغير ذلك من الواقع شيئًا، ولكن بما يبدو موقفًا حياديًّا يحمل في طياته تأييد الرؤية الإثيوبية، ويمكن أن تحقق به عدة مكاسب لمصالحها القومية كما سلف.
إثيوبيا بلد ناهض، ولروسيا إرث كبير فيه منذ تأسيس النظام الجمهوري، ويمكن القول إن إثيوبيا الحالية بنظامها السياسي الفيدرالي استنساخ من النموذج الروسي البلشفي، ولم تحصل رغم كل مساهماتها تلك على ما تعتقد أنه حصتها العادلة، حيث عانت إثيوبيا عدة حروب وصراعات أهلية، وعندما بدأت تستقر تفكك الاتحاد السوفيتي.
الآن تريد العودة إلى القارة من بوابتها، واستغلال حالة الجفاء الأمريكي بالعلاقة مع أديس أبابا بسبب حرب إقليم التغراي، والدعم والتعاطف الإفريقي الذي يبدو أكبر تجاهها منه إلى القاهرة، والذي تجلى في كلمات مندوب الاتحاد الإفريقي وكينيا والنيجر. إلى جانب أن الصين، وهي المستثمر الأكبر في إثيوبيا وإفريقيا عامةً،
لا ترى روسيا منافسًا اقتصاديًّا لها، بل عنصر تكامل، وربما داعمة لاستثماراتها من خلال وجودها السياسي والعسكري، بالإضافة إلى تركيا الناشطة بقوة في القارة، والتي لموسكو قدرة حتى الآن على صياغة التناقضات معها بما لا يضر بمصالح الطرفين، وعليه فكلمتها بدت داعمة لإثيوبيا لتكسبها إلى صفها مع باقي إفريقيا السمراء.
وتسبب مشروع السد الإثيوبي المثير للجدل في توترات مع مصر والسودان. وعقدت الدول الثلاث جولات مفاوضات عدة دون أن تنجح في التوصل لحل للخلاف المستمر. وتسود خلافات بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى بشأن السد، الذي يعد أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا بتكلفة 4.2 مليار دولار. لكن مصر تعتبره تهديدا خطيرا لإمدادات مياه النيل التي تعتمد عليها بالكامل تقريبا. وتطالب بما تراه حقا تاريخيا في ضرورة الموافقة على مشاريع مائية على طول النهر وفقا لمعاهدة 1929 بين مصر والسودان والتي تُخصص نحو 66 في المئة من تدفق مياه النهر لمصر، و22 في المئة للسودان.
إن أزمة سد النهضة سياسية تهدف إلى إيصال مياه نهر النيل للدولة العبرية. كما أشار النائب ضياء الدين داوود إلى أن إسرائيل تستخدم إثيوبيا للضغط على مصر وصولا إلى “إسرائيل الكبرى من النيل للفرات”. بأن إسرائيل لها تأثير على ملف سد النهضة لأنها تحلم أن تكون إحدى دول مصب نهر النيل منذ عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات،
أنّ على مصر اللجوء إليها في ملف السد للضغط على إثيوبيا. تواطؤ إثيوبيا لتحقيق أهداف إسرائيل “من أجل تركيع القاهرة”، بينما انتقد آخرون مقترح لجوء مصر لإسرائيل للوساطة في أزمة السد.
الموقف الأمريكي من قضية سد النهضة لم يتغير جذريا برحيل ترامب وقدوم بايدن للبيت الأبيض، وإنما تغيرت الأدوات المستخدمة فقط، فرغم فك الارتباط بين تعليق المساعدات والوصول إلى حل لخلاف سد النهضة مع إعلان الإدارة الجديدة مراجعة سياستها تجاه سد النهضة، وتقييم دورها في تسهيل الحل بين الدول الثلاث، فإنها ذيّلت ذلك بأملها في حل دبلوماسي بشأن سد النهضة يشمل مصر والسودان.
إذن، ففي ظل إدارة بايدن لا تزال الولايات المتحدة متمسكة بموقفها من ضرورة الوصول لحل دبلوماسي للخلاف بين الدول الثلاث، ولكنها أقل ميلًا لتوظيف أدواتها الخشنة -كتعليق المساعدات- للضغط على إثيوبيا للوصول إلى اتفاق نهائي مُلزم.
سيتوقف مدى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للوصول إلى حل لنزاع السد على عوامل عدة: أولها القدرة على تخصيص الموارد اللازمة للدفع تجاه الحل قبل تصاعد التوتر المتوقع مع الملء الثاني للسد في يوليو المقبل،
وثانيها مسار العلاقات الثنائية مع الدول الثلاث في ضوء تطوراتها الداخلية ومدى استجابتها للتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، وآخرها مواقف الأطراف الثلاثة وخطوطها ال
تعتبر إثيوبيا الآن مصدرًا لتهديد السلم والأمن الدولي في منطقة القرن الإفريقي، وعلى امتدادها الشمالي وصولًا إلى مصر، ففي شمال البلاد تشتعل أزمة إنسانية في إقليم التيجراي على إثر الحملة العسكرية للحكومة الفيدرالية على قوات “جبهة تحرير التيجراي”، التابعة لعرقية الأورومو المسيطرة في الإقليم،
وفي الغرب زاد التوتر مع حدوث اشتباكات ومناوشات بين القوات الإثيوبية والسودانية في تجدد للنزاع الحدودي الممتد بين البلدين، وقد زادت حدة الخطاب الأمريكي تجاه إثيوبيا مع وصف وزير الخارجية الأمريكي الحالي ما يحدث في إقليم تيجراي بأنه “تطهير عرقي”، ودعوته لمحاسبة شاملة للمسؤولين عمّا حدث. وتدور حاليا في أروقة إدارة بايدن أخبار حول النية لتعيين مبعوث خاص لمنطقة القرن الإفريقي، لإضافة المزيد من الموارد والاهتمام الدبلوماسي بالأزمات المستعرة في الإقليم، بدايةً من الانتقال السياسي الحسّاس في السودان وغياب الاستقرار وتفشي الفساد في جنوب السودان، مرورًا بالحكومة الصومالية الهشة التي تواجه جماعة الشباب الإرهابية، وانتهاءً بالأزمة السياسية الحالية في إثيوبيا والتوترات على حدودها الشمالية والغربية، وبكل تأكيد الصراع الدائر بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب آخر حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي.
السؤال المهم هنا هو: هل تتمكن الدبلوماسية الأمريكية من الضغط على أديس أبابا قبل بدء المرحلة الثانية لملء خزان السد في يوليو المقبل؟ وهل تملك الدبلوماسية الأمريكية أدوات جديدة للضغط على إثيوبيا بخلاف تعليق المساعدات الذي أثبت فشله في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؟ حمراء المعلنة والمتاح أمامها من حلول وإجراءات.
ينبغي على كلٍ من مصر والسودان قبل الدخول في جولة مفاوضات جديدة مع إثيوبيا أن يضمنا إطارا زمنيا واضحا ومحددا لتلك المفاوضات، وضمانات لامتثال إثيوبيا لما يُوصي به الوسطاء الجُدد، كما ينبغي عليهما ألا يبدآ من الصفر
، وإنما -على سبيل المثال- من مسودة الاتفاق التي تم التوصل إليها في واشنطن فبراير 2020 برعاية أمريكية وبحضور البنك الدولي، وينبغي كذلك اللجوء لحلفاء مصر في الخليج، بما لديهم من استثمارات ضخمة في إثيوبيا تُمكِّنهم من الضغط على الأخيرة للقبول باتفاق نهائي مُلزِم، يضع حدًّا لهذا النزاع المستمر منذ ما يجاوز عشرة أعوام والمرشح للتصعيد في قابل الشهور.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
Virus-free. www.avast.com