أن الانفلات الأخلاقي الذي نراه الآن هو أكثر ضررًا وأوسعُ انتشارًا من الانفلات الأمني؛ حيث أصبح التعاملُ بين الناس وبعضها البعض خاليًا من النقد الهادف، والأسلوب المؤدب، أننا بحاجة إلى أن نقف على أقدام ثابتة، وأن نضعَ الأخلاق في اعتبارنا،
ولعل الحالةَ الاقتصادية قد تكون سببًا قويًّا في الانفلات الأخلاقي كذلك؛ حيث إن تفاوتَ دخول الأفراد بشكل كبير ينعكس – بكل تأكيد – على الأخلاق في المجتمع سلبًا؛ لِما ينتج عليها من حقدٍ وكراهية تنشأ بين طبقات المجتمع بعضها البعض،
كما أن الحالةَ الاقتصادية يكون لها تأثيرُها الواضح على الأُسرة في المجتمع؛ حيث نجد في الأسرة محدودة الدخل نوعًا من الخلَل نتيجة ضيق المكان الذي يسكنون فيه، أو طبيعة البيئة التي يعيشون فيها، لا سيما أن هذه الأُسرة يكونُ بها أبناء وبنات في سن مراهقة قد يحتاجون إلى نوع من الفصل بينهم، الأمر الذي قد لا يتوفَّر لدى الأُسرة ذات الدَّخل الضعيف.
أن وجود ميثاق أخلاقي يفرض عقوبات صارمة يتم تطبيقُها على من ابتعد عن المنهج الأخلاقي الذي رسَمه لنا الرسولُ الكريم، وأمَرنا باتباعه، مشيرًا إلى أن تطبيق حدود الله يُعَد أحد سبل العلاج الذي يجبُ أن يتَّبع من أجل القضاء على هذا الانفلات الأخلاقي الذي نراه، لا سيما حد القذف، مع كثرةِ ما نراه من سب وقذف متبادل بين الناس بعضهم البعض.
منذ 2011 وحتى الآن، شهد العالم العربي انفلاتا أخلاقيا كبيرا، عززه وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي كشفت بشكل واضح جلي مدى سوء الأخلاق الذي وصلنا إليه.
قد يكون الانفلات الأخلاقي موجودا من قبل ذلك فعلا، لكن هذه الوسائل ساعدت في ظهوره وانتشاره بشكل كبير.
والسؤال الذي يأتي في الذهن مباشرة هو: أين اختفت أخلاقنا العربية؟ وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ في الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال صعبة ومحيرة ومتشعبة، لأن الموضوع ليس ثابتا، فالأخلاق تدخل في كل كبيرة وصغيرة في حياتنا، ولا يمكن فصلها عن الواقع الذي نعيش فيه.
كما أن تعريف الأخلاق نسبي، فقد يرى مجتمع ما أن تصرفا معينا ضد الأخلاق، بينما يراه آخر تصرفا أخلاقيا، فمثلا ترى بعض المجتمعات أن قتل المريض الذي لا يرجى شفاؤه تصرفا أخلاقيا، فهذا من باب الرحمة به، بينما ترى مجتمعات أخرى أن هذا التصرف منافٍ للأخلاق، وجريمة يجب محاسبة مرتكبها.
لكن هل ما نراه الآن في مجتمعاتنا العربية يمكن أن يندرج تحت هذه النظرة النسبية للأخلاق؟ في الحقيقة ما نراه في مجتمعاتنا من تصرفات بعض الناس يندرج تحت قائمة الجريمة التي يجب أن يحاسب من يقترفها حسابا عسيرا. ولذلك سوف أسرد بعض القضايا المجتمعية الخطيرة التي تنافي الأخلاق، ولا يمكن لأحد أن يبرر فعلها إلا إذا كان مجرما أو مختلا.
1- التحرش:
أولا يجب أن نحدد مفهوم التحرش، حتى نستطيع أن نحكم على فعل بعض الأشخاص أنه يندرج تحت هذا العنوان أم لا.
وبالبحث وجدت أن الجميع اتفق على أن التحرش هو أي نوع من الكلمات غير المرحب بها، أو القيام بأفعال لها طبيعة أو إيحاء جنسي، وتنتهك السمع والبصر والجسد، وخصوصية الفرد ومشاعره.
وتتعدد أنواع التحرش في المجتمع، وتختلف طرقه وأساليبه، ما بين تحرش بالإيحاء، أو بالعين، أو باللمس، وقد يصل إلى التحرش الجماعي، خصوصا في الأماكن التي تشهد ازدحاما بالفتيات والنساء كالمدارس والجامعات، أو في أوقات الأعياد.
ومن خلال هذا المفهوم يتضح أن الوطن العربي غارق في هذه الجريمة الأخلاقية، وأن كل فرد فيه يفعل هذه الفعلة ولكن بأشكال مختلفة، أقلها النظر بالعين.
ولكن هل من يفعل تلك الجريمة هو الذي يجب أن يعاقب فقط؟ ماذا عن الذي يرى شخصا يتحرش بفتاة أو طفل ولا يحرك ساكنا؟
أظن أن من يرى مثل هذه الجريمة ولا يفعل شيئا، هو شريك أصلي فيها، ويجب أن يحاسب أيضا. وهناك فئة من الناس أظنها مهيئة للقيام بالتحرش أكثر من غيرها، ولا أستبعدها من المسئولية، ويجب أن يحاسبوا أيضا، ألا وهم الذين يبررون هذه الجريمة، وغيرها من الجرائم.
وأكثر شيء يزعجني حقيقة من أمثال هؤلاء، أن يلقي اللوم على المجني عليه، بأنه يلبس بطريقة ما، أو أن شكله يدل على كذا، أو أن مرتكب هذا الفعل يعاني من كبت ما.
هناك قاعدة نفسية متعارف عليها، وهي “أنك إذا رأيت فعلا معينا لمدة معينة فإنك سوف تعتاد عليه”، وهذا ينطبق على الأفعال الجيدة والأفعال السيئة معا. فلو أنك رأيت جريمة ما ترتكب كل يوم، فسوف يصبح عندك شعور بأن هذا شيء عادي، كما سيصبح هناك رأي جمعي بأن المجتمع كله فاسد.
إن الجرائم كارثة مجتمعية خطيرة تعززها حاجة الناس والفقر والبطالة، ومهما كانت هذه الدوافع فلا يمكن تبريرها، واختلاق الأسباب إليها، فالجريمة جريمة، وإلا لتحول الجميع إلى قتلة ومجرمين.
ومن وجهة نظري، فإن التناول الدرامي في العالم العربي مؤخرا أجج دوافع الجريمة لدى الأفراد، خصوصا أن هذه الأعمال الدرامية تجعل من المجرم بطلا للعمل، فأصبح الناس يرون أن بطل المسلسل أو الفيلم رجل شهم قوي.
ولم تعد الدراما تقدم ذلك المحتوى التثقيفي والتعليمي والتربوي الذي كان سائدا في فترة زمنية قريبة، والتي كانت الأسرة المصرية والعربية تجلس كاملة العدد لتستمتع بهذا الفن الراقي. لم يعد يمر علينا يوم إلا ونرى في وسائل التواصل الاجتماعي صورة أو فيديو لمجموعة من الشباب أو الأطفال يعذبون كلبا أو يقتلون قطة، أو يضربون حمارا، وغيرها من الحيوانات الأخرى، وكل ذلك بأساليب وحشية، لا يرضاها عقل ولا تقبلها فطرة، وكأن الرحمة قد انتزعت من قلوب هؤلاء. وعلى الرغم من أن كل الأديان تأمرنا بالرحمة والرفق بالحيوانات وعدم تعذيبها، إلا أننا نرى قلوبا كالصخور أو أشد قسوة.
وتشير بعض الدراسات إلى أن هذا السلوك ينذر بخطر شديد، حيث من الممكن أن يتحول الشخص الذي يتلذذ بتعذيب الحيوانات إلى قاتل للإنسان، كنوع من تجريب ما فعله في الحيوان على الإنسان، ما يجعلنا أمام خطر كبير، يستوجب تكاتف الجميع للبحث في هذه الجريمة، واكتشاف دوافعها وأسبابها، والبحث عن حلول لها.
4- التنمر
التنمر هو ظاهرة أخرى أظهرتها لنا وسائل التواصل الاجتماعي، تفضح مدى عنصرية الإنسان وتعصبه. وهو شكل من أشكال الإساءة والإيذاء، موجه من قبل فرد أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة أضعف منها، وقد يكون التنمر بالقول أو الفعل أو الإيحاء.
ويوصف التنمر على أنه شكل من أشكال المضايقات التي يرتكبها المسيء الذي يمتلك قوة بدنية أو اجتماعية وهيمنة أكثر من الضحية، كأن يكون المتنمَر عليه مغتربا في بلد ما من أجل العمل مثلا، فيتنمر عليه فرد أو أفراد من هذا المجتمع.
قد تكون هذه الظاهرة قديمة بعض الشيء، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي أظهرتها لنا بصورة جلية، ونحن نرى يوميا صورة من صور التنمر في مجتمعاتنا العربية، تنذر بمدى الخطر الذي وصلنا إليه مؤخرا، وتجعلنا مجبرين على البحث في الأسباب، ومحاولة اكتشاف الحلول والعلاج في أقرب وقت. كل هذه الجرائم، وغيرها الكثير والكثير، قد انتشرت في مجتمعاتنا العربية بصورة كبيرة وخطيرة، في السنوات العشر الماضية، بسبب غياب الأخلاق، وقد تظهر لنا الأيام والسنون القادمة ما هو أسوأ وأخطر.
ويجب على جميع المؤسسات والهيئات والأفراد أن يتكاتفوا؛ ليواجهوا هذا الخطر الذي قد يدمر مجتمعاتنا وأولادنا، وأن يبحثوا في أسباب انتفاء الأخلاق، وما الذي أدى إلى تنامي هذا الخطر في هذه الفترة بهذه الصورة المقلقة، وأن يكتشفوا حلولا حقيقية لمعالجته والقضاء عليه. كل القيم والآداب الإسلامية مترابطة ومتكاملة
ولا يمكن أن نكتفي ببعضها أو نطالب الناس بها على مراحل، لكن أبرز ما يزعجني الآن هو غياب قيمة «الاحترام» خاصة في سلوك الشباب، والاحترام هنا يشمل احترام النظام والقانون واحترام الكبير، واحترام حرمة النساء،
واحترام من هم جديرون بالاحترام من رموز الدولة والعلماء والمعلمين والمربين والدعاة وغيرهم.. وهذه المشكلة السلوكية تعانيها أكثر تلك المجتمعات التي تعالت فيها أصوات شاذة وغريبة بشعارات زائفة باسم الحرية السياسية والفكرية والشعارات الثورية.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان