العنف الثقافي – وهو مصطلح يعبر عن فرض رؤية حزب ما أو جماعة ما أو سلطة ما على مجتمع متنوع متعدد – يعد انتهاكا وتعديا وإنكارا وتجاهلا لشخصية الآخر ومتطلبات حياته مما يفضي إلى إثارة الغضب لدى الآخر فينبني على غضبه سلوك سلطوي عنيف يمارسه أتباع السلطة ومروجو ثقافتها العنفية و يضاعف شقة الخلاف والاختلاف بين الأطراف ، ويعمل على إخراس الأصوات وتحويل العلاقة التكافلية بين السلطة والمجتمع إلى علاقة متسلط ومسلوب ، بدل ان تسعى السلطة أية سلطة إلى إيجاد علاقة إنسانية متوازنة متكاملة مع مواطنيها.
والثقافة تجمع بين الثابت والمتحول وتضم الأصول المعيارية التى توجه نشاط إنتاج وإعادة إنتاج الهوية كما تضم أشكال الإبداع الذى يشمل التجديد المعرفي والتقني. وعوامل التغيير والتعديل فى ثقافة مجتمع ما قد تأتى من داخله بفعل الديناميكية الداخلية للمجتمع أو تكون بفعل التأثير والتأثر بين ثقافات المجتمعات الأخرى حيث تنشأ ظواهر التثاقف والتفاعل الثقافى بين المجتمعات.
والمعروف أن ثقافة المجتمعات القومية ثقافة متفتحة لا تخشى الاستيعاب وهى أيضاً ثقافة فاتحة أى تميل فى ذات الوقت إلى التوسع والانتشار خارج مناطقها الجغرافية وفرض معاييرها وانساقها ومنتجاتها على حضارات العالم الأخرى. وهذا كان شأن الثقافة الإسلامية فى عصور إزدهارها وهو أيضاً شأن الثقافة الأمريكية فى عصرنا الحالى. واليوم فى ظل ثورتى المعلومات والاتصال وتجاوز العولمة الاقتصادية للحدود السياسية والجغرافية الوطنية والإثنية والحضارية تتعقد إشكاليات تفاعل الثقافات التقليدية مع ثقافة ما بعد الحداثة أو ثقافة العولمة. فالعولمة ليست ظاهرة جديدة بل عملية تاريخية نميز فيها بين مرحلتين: عولمة الرأسمالية منذ أواخر القرن الـ 19 حتى نهاية النصف الأول من القرن الـ 20 وقد أدت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وعولمة الرأسمالية الجديدة أى ما بعد الصناعة وتتميز بسطوتها على النظام الدولى وتقريبها المذهل للمسافات وتوسيعها لإطار السوق وتجاوزها الدول الوطنية وتنافسها غير المتكافئ مع قدرات وصلاحيات الدول الوطنية فى تشكيل وسائل ومناهج إعادة إنتاج وإبداع نماذجها الثقافية التقليدية والحداثية.
والسمة الجوهرية للعولمة الرأسمالية أنها مركزية التراكم التقنى والمالى والمعرفى والثقافى وليست مجرد عولمة التبادل التجارى أو الانتشار المعلوماتى والاتصالى.
يزدهر العنف في الدول التي تفتقر إلى الرؤية المدنية للحياة الإنسانية ، فإلى جانب العنف الثقافي الموجه ضد المختلف ( دينا وطائفة وعرقا وقومية وفكرا ) يعمل المستفيدون من الاضطراب الحاصل في المجتمع ، على إعاقة تطبيق العدالة ، ففي تطبيقها حرمانهم من أرباح وثروات وصفقات كبرى ، فيحاولون الإبقاء على الوضع المضطرب الذي تتخفى وراء ضبابيته فئات منتفعة كثيرة لا يرضيها الصلح الاجتماعي ولا تتقبل فضح مصادر الصراع الحقيقية وعلاجها فتبقى السلطة المهيمنة على المشروع السياسي متمسكة بـ ( العنف الثقافي) .
إذ تتأسَّس ثقافة العنف على الاستلاب الاقتصادي والاجتماعي، فإن هذا الاستلاب يولِّد، بدوره، استلابًا انفعاليًّا. فالشخص الذي يمارس العنف يقيم علاقته مع الآخر على كذب كبير مغلَّفٍ بالقيم وباللافتات الكبرى، فيردُّ عليه الآخرون بكذب مضادٍّ، مشبع بالأصولية وبالنفاق: كذب في الحياة، كذب في الزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادِّعاء القيم، كذب في الرجولة، كذب في المعرفة، وكذب في الإيمان والتجارة والسياسية، إلخ. علاقات زائفة، ضلالية، لا حوار فيها، بل عنف وعنف مضاد، وكذب وكذب مضاد، ليتحوَّل العالم إلى زيف يلعب كلَّه لعبة العنف. وويل – حينئذٍ – لذوي النوايا الطيبة!
أن المجتمع الثقافي الذي ينضوي تحت ظاهرة العنف يتخذ أفراده مفاهيم معادية تجاه الآخر تكمن على شكل عنف معنوي أو مادي ومنها: تشكيك المثقف بالآخر واتهامه باللاأخلاقية, ومحاولة التقليل من مشاريعه وإنجازاته والتشهير به في سبيل طمس كل الحقائق مما يوقع الحالة الثقافية في مأزق الشخصنة التي تنحو نحو الإقصاء والذي بدوره يؤدي إلى حالة من القلق تعتري المثقف وتسيطر على هويته الثقافية , بل وتفقده حالة الإبداع تمنع عنه التنقيب عن موروث أمته الثقافي.
وقد ينتمي العنف الثقافي إلى عنف مغاير عن عنف الأفراد يتمثل في «عنف السلطة» الذي تمارسه السلطة القائمة على البلد وترتكبه ضد المثقف، والمتمثل غالبا في وضع الخطوط الحمراء التي تحد من إبداع المثقف ومصادرة كلمته مما يخلق حالة من الرعب وزعزعة الثقة لدى المثقف. من شأنه أن يقضي على كفاءته وفكره. إن أشكال العنف الثقافي وآلياته تزداد انتشارا وتطورا مع التطور الحضاري كما صرح بذلك علي حرب في كتابه: «العالم ومأزقه» ولعلنا ندرك أن هذه الظاهرة أخذت بالتفشي بين أوساط المثقفين نتيجة لأبعاد الحقد والضغينة والكراهية تجاه الآخر ,. وحتما هذه الظاهرة وأنماطها تقف خلفها ذهنيات تحمل جينات هشة وفكرا إقصائيا وقد تعاني هذه العقليات من عوامل نفسية فرضتها مواطن البيئة الثقافية أو التاريخية أو الحضارية مما دعا تلك الشخصية المأزومة لخلق أكثر من إطار للعنف تستخدمه ضد من يجادلونه بالثقافة أو ممن سبقوه وبالتالي فإن حالة العنف هذه هي نتاج لعوامل مشتركة رسخت في ذهنية ذاك المثقف مما أكسبها انعدام الثقة من جهة ومن جهة أخرى استبدال ثقافة «ما» بثقافة مرتبكة ومتوترة في أنماطها وتعابيرها وخطابها.
وتأتي ثقافة العولمة المتأمرِكَة والتطورات الاجتماعية العاصفة التي تمرُّ بها بلادُنا لتعطي أبعادًا جديدة للعنف الجنسي المسلَّط على المرأة. فالمرأة في الاقتصاد الطبيعي والمجتمع الزراعي والمدني التقليدي تكتسب مكانتها ليس من خلال وظيفة الإنجاب فحسب، بل من تربية الأطفال ومن دورها في الاقتصاد المنزلي. لكن هذه التطورات قد عملت، بدورها، على تضاؤل دور الأسرة في عملية التربية، من جهة، واضمحلال الاقتصاد المنزلي، بشكل خاص في المدن، من جهة ثانية.
والنتيجة، بالتالي، هي تراجع دور المرأة ومكانتها. وعلاج مثل هذه الظاهرة هو إيجاد بديل مناسب يقوم على استعادة الثقة وإيمان الذات الكارهة بالآخر وبمنهجه والرغبة في الوصول إليه والتحاور معه والتحرر من القيود العنيفة تجاهه فالثقافة أصلها الانتماء أولا وثانيا القبول بفكر الآخرين ومناقشتهم دون تعنيفهم أو إظهار مكامن الحقد والكراهية أو إقصائهم من الذاكرة الثقافية . فهذا العنف لا يولد إلا عنفا آخر قد يكون أكثر قساوة منه وبالتالي يصبح طريق ثقافتنا مقيدا ومسدودا وغير قابل للنمو ذلك أن الشخصيات الثقافية هي مرآة حقيقية للثقافة بها ينظر الآخرون إلينا وبها تتعزز الكثير من المفاهيم الفكرية والاجتماعية.
إن الهاجس الأساسي الذي دفعني إلى البحث في العلاقة بين الثقافة، من جهة، وبين العنف وحقوق الإنسان في مجتمعاتنا، من جهة ثانية، هو سؤال طرحتُه على نفسي في بدايات العقد الماضي: لماذا تقبَّلتْ مجتمعاتٌ عربية عديدة، منذ نهاية التاسع عشر، قيم حقوق الإنسان والديموقراطية، دون أن تنقطع عن فهم الثقافة والتراث الإسلاميين، بل قاربت الثقافة العربية الإسلامية من منطق الاستشراف الحَداثي، حتى فيما يخصُّ الأحوال الشخصية وإعمال التقنيات الحقوقية النابوليونية، دون مقاومة كبيرة حينذاك؟ ولماذا نشهد، في زماننا، الأصولية تلعب دور ردِّ فعل نكوصي معادٍ للتحديث والإصلاح؟
ليس من الصحيح القول إن ثقافتنا، بما تحمله من إرث، تشكِّل رصيدًا قويًّا لصالح استمرار قيم الاستبداد وسيادتها. فليست ثقافتنا العربية الإسلامية أفقر بمفاهيم الحرية من غيرها، ولا هي أغنى بالاستبداد من غيرها (الهند مثلاً). لكن حيثما ساد في الغرب وعيٌ بالتأخر لدى أمة أوروبية، ساد الاستبداد والتوتاليتارية والهوس القومي، كما جرى في ألمانيا النازية. وكلُّ النهضات الأخرى، سواء نهضة فجر الإسلام أم النهضة الأوروبية أو غيرهما، قامت على أساس الانتصار الاستراتيجي على الآخر – انتصار دفع الآخر بعيدًا.
أما النهضة في حالتنا الراهنة، فلقد قامت في ظروف غزوٍ وتحدٍّ وجودي: صار التراث سلاحًا إيديولوجيًّا في وجه الآخر الغازي، ولم يعد منظومة مرجعية قيمية، نراجعها بالنقد والتقييم وندرك نسبية كلِّ قيمها. أضحى التراث آلية للدفاع الذاتي عن النفس أمام الانصهار؛ أضحى هو وحده الهوية. فأضحى الضعف والانكسار لا يُعزى إلى تخلُّف البنية العقلية، ولا إلى المحدِّدات الثقافية، بل إلى أسباب طارئة، شكلية أو تآمريه. وأما هويتنا، كما يتم الترويج لها في ثقافتنا العربية الدارجة، فتقع فريسة لهاجس التعالي المفرط، هاجس الصدارة والخوف من الذوبان، مما يعيق مساهمتها بدورها “التاريخي” المفترض في صياغة الثقافة العالمية.
العنف الممنهج أو الهيكلي قد يحتاج إلى توعية بقيمة المواطنة من خلال الإعلام والمنصات الثقافية وتغيير مناهج التعليم الدينية، ومن خلال إشراك المجتمع في مشاريع تنموية تعزز قيمة المواطنة، لكنّ الفيصل سيظلّ في قدرة القانون على نبذ العنف من خلال صياغات تشريعية واضحة، وإنفاذها للقضاء على كافة أشكال التمييز المجتمعي، وما يتبعه من عنف مبرر تحت مظلّة الثوابت الدينية أو الخصوصية الثقافية.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان