بينما أقرأ الفصل الأول من الجزء الأول من موسوعة “سليم حسن” بعنوان (مصر القديمة، في عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العهد الأهناسي) تذكرت أقصوصة سردها
“أكهارت تول” في كتابه الأكثر مبيعاً حول العالم (قوة الآن):
“اعتاد شحاذ (متسول) أن يجلس بجانب الطريق لما يزيد عن ثلاثين عاماً، ذات يوم مر به غريب. تمتم الشحاذ قائلاً وهو يقدم قبعته؛ اعطني بعض قطع النقد الصغيرة، قال الغريب: “ليس لدي ما أعطيه لك” ومن ثم سأل: “ما الذي تجلس عليه”؟ أجاب الشحاذ: “لا شئ إنه مجرد صندوق قديم أني أجلس عليه منذ زمن بعيد جداً”. سأل الغريب: “هل نظرت ما بداخله”؟ أجاب الشحاذ: “لا ولمَ أنظر”؟ إذ لا يوجد بداخله شئ”. ألح الغريب قائلاً: ألق نظرة”. فتدبّر الشحاذ أمر فتح الغطاء وشاهد بدهشة وعدم تصديق وابتهاج أن الصندوق كان مليئاً بالذهب.
أنا ذلك الغريب الذي لا يملك شيئاً يعطيك إياه والذي يخبرك أن تنظر إلى الداخل لا أن تنظر داخل أي صندوق كما في الحكاية. ولكن في مكان أقرب في داخل نفسك.
بوسعي أن أسمعك تقول: “لكني لست شحاذاً”
إن أولئك الذين لم يجدوا ثروتهم الحقيقية، والتي هي فرح الكينونة المتوهج بالثقة والحب، والطمأنينة العميقة الراسخة التي ترافقها، هم شحاذون ولو امتلكوا ثروة مادية طائلةً. فهم يبحثون في الخارج عن لحظات سرور أو انجاز، يبحثون عن الشرعية والأمان والحب. في حين أنهم يملكون ثروةً ضمن تلك الكينونة لا تحوي كل الأشياء فحسب بل هي أعظم بكثير من أي شيء يمكن أن يقدمه العالم.
أكاد أرى أننا في مصر نلعب دور هذا الشحاذ، الذي يجلس على كنز من الثروات المادية والبشرية والحضارية والثقافية… ولكن لا ندري بها، ولا حتى نحاول فتح هذا الصندوق الذي نجلس عليه، وبدلاً عن ذلك، نجاهد ونجتهد لكي نتسول من العالم من حولنا.
نريد الوعي والكرامة والثقة بالنفس والثقة في بعضنا البعض لكي نفتش عن كنوزنا ونفرح ونسعد بها، ولقد علمنا التاريخ كيف يرى العالم ما لدينا من تلك الكنوز وجاءوا إلينا لإستلابها منا ونحن ننظر اليهم بفخر وغباء وجهل.
أما الآن، ما علاقة هذه القصة بموسوعة “سليم حسن” سالفة الذكر ؟
أقول لكم: إننا. ذلك المتسول الذي يجلس على صندوق يحتوى على براهين حضارة وُجدت في عهد ما قبل التاريخ، وظللنا نجلس متململين في استرخاء ونعاس وغفوة لآلاف السنين ولا ندري ماذا يوجد تحتنا، ولا ندري ماذا يوجود في باطن ارضنا، وغرقنا في الخرافات والشعوذة حتى أننا كلما ظهر لنا على سطح الأرض تمثال او أثر مجسم اطلقنا عليه اسم “مساخيط” لنسارع في بيعه بثمن بخس، وعشنا على هذا الحال لقرون عديدة حتى مطلع القرن التاسع عشر، وبفضل علماء الحملة الفرنسية ١٧٩٨-١٨٠١، الذين قاموا بتدوين نقوش المعابد وجالوا في طول وعرض وادي النيل ليتركوا لنا وللعالم مجلدات “وصف مصر”. ثم تلا ذلك، نجاح العالم الفرنسي “شامبليون” الذي فك لغز رموز حجر رشيد وبداية ترجمة اللغة المصرية القديمة، وبعد ذلك بدأ توافد علماء أثريين من مختلف دول أوروبا لدراسة الآثار المصرية القديمة بداية من عصر ما قبل التاريخ، ولم يكن من بينهم عالم مصري واحد، ولم يكن لدينا من إهتم بذلك، وربما كانت المشاركة الوحيدة لنا هم الخدم والمساعدين في النقل والترحال وتأمين الدواب والمعونة.
لقد ذكر سليم حسن اكثر من عشرين عالم آثار انتقلوا من بلادهم وعاشوا بيننا الفترات طويلة وجابوا الوديان والصحاري والنهر والمعابد والمقابر لكي يثبتوا ويبرهنوا للعالم أن التاريخ بدأ من هنا، ثم أخذ العالم عن سكان هذه الأرض علومه وابتكاراته واساليب حياته.
والآن، ما هو الغرض من هذا المقال: الأمر وما فيه، أن مستقبلنا وهويتنا ترتكز بشكل وثيق بالوعي بتاريخ شعب عاش على هذه البقعة من العالم منذ آلاف السنين، شعب في فترة زمنية يحتاج وصل مراحل تاريخه ببعضها، لدينا أجيال من الابناء والأحفاد يتعرضون طوال الوقت لغزوات شرسة لطمس هويتهم وتشويه تاريخهم وإزدراء ثقافتهم وأسلوب حياتهم، نريد تنشئة جيل من الشباب يعيد البحث في صندوق الذهب ويستخرح كنوزه ويعيد تشكيل الحضارة والمدنية، جيل يبحث في تاريخ شعب عريق وقديم، له عقيدته وفلسفته في الحياة وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته، جيل يستطيع أن يغير حاضره ليرى المستقبل على ضوء تاريخه. جيل يعيد صنع الحضارة وسط عالم مليئ بالغل والحقد والغيرة والجشع والطمع والغدر والفساد والتسلط.