الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة تركز على السلع الصينية وتأثيرها على الاقتصاد المصري محدود، لكنها قد تؤثر بشكل كبير على التجارة الدولية والطلب على الطاقة وأسعار النفط، مما يهدد الاقتصاد العالمي بالركود أو التباطؤ.
رغم أن تأثير هذه الرسوم على الاقتصاد المصري غير مباشر، إلا أن هذا لا يقلل من أهميته، خاصة أن الصين والولايات المتحدة يعدان من أهم الشركاء الاقتصاديين للدولة . بما أن الصين من أكبر مصدري للدولة المصرية
في سياق اقتصاديات جنوب شرق آسيا، التي تعتمد بشكل كبير على الإنتاج المُوجَّه للتصدير والتكامل في سلاسل التوريد العالمية، جاءت تعريفة “يوم التحرير” التي أطلقها الرئيس الأمريكي كزلزال مفاجئ يخل بالتوازنات الاقتصادية ليثير تسونامي يهدد الاستقرار الداخلي؛ فهذه الرسوم الجمركية لا تُمثِّل تحديات تجارية عابرة، بل تشكل نقطة تحول مفصلية تضرب أركان النموذج التنموي للمنطقة. ومع دخول العالم مرحلة جديدة من السياسات التجارية الحمائية، تقف اقتصادات رابطة آسيان على حافة معقدة تتداخل فيها مخاطر الركود، واضطرابات السوق، وانهيار الثقة، ما يستدعي فهماً عميقاً لثلاثة أبعاد رئيسية لهذا التحول، وهي:
1 – صدمة التجارة وسلاسل الإمداد: تتعرض اقتصادات جنوب شرق آسيا التي تعتمد على التصدير لضربة قاسية، فالولايات المتحدة الأمريكية تمثل سوقاً رئيسية للعديد من دول آسيان حتى إن وارداتها من هذه الدول سجلت 352.3 مليار دولار أمريكي في عام 2024؛ فالولايات المتحدة هي أكبر وجهة تصدير لكل من فيتنام وكمبوديا وتايلاند والفلبين، وتشكل سوقاً حاسمة لكل من إندونيسيا وماليزيا.
تواجه هذه الدول الآن تعريفات جمركية أمريكية تتراوح بين 17% (للفلبين) وتصل إلى مستوى 49% على صادرات كمبوديا. وتم فرض رسوم بنسبة 46% على فيتنام و36% على تايلاند؛ مما يهدد صناعات مثل الإلكترونيات، والملابس الجاهزة، وقطع غيار السيارات؛ لذا تُشكِّل صدمة الرسوم تهديداً جوهرياً لنموذج النمو الاقتصادي في جنوب شرق آسيا القائم على التصدير. وفي سياق متصل، ستُواجِه سلاسل الإمداد – التي تنوعت باتجاه آسيان هرباً من التوترات الأمريكية الصينية- مجدداً مخاطر متفاقمة جراء حالة عدم اليقين.
2 – الضغوط التضخمية وتأثير “الثروة”: لا تُهدِّد الرسوم الجديدة أرباح الشركات فقط، بل أيضاً دخول الأسر والأسعار في جنوب شرق آسيا. وتتجه الشركات المُصدِرَّة إلى تقليص الإنتاج جراء انخفاض الطلب الأمريكي؛ ما قد يؤدي إلى فقدان وظائف وخفض مستويات الأجور، وينعكس سلباً على حجم الإنفاق الاستهلاكي وجهود الحد من الفقر.
وقد انخفض المؤشر الرئيسي للبورصة الفيتنامية بنحو 7% في يوم واحد عقب الإعلان، وتراجع “الـدونغ” الفيتنامي إلى مستوى قياسي، وهبط “البات” التايلاندي إلى أدنى مستوياته منذ أشهر، في إشارة إلى هروب رؤوس الأموال نحو ملاذات آمنة. ويمكن أن تؤدي هذه الانخفاضات في قيمة العملات إلى تضخم مُستورَد؛ مما يجعل الوقود والغذاء أكثر تكلفة للمستهلكين.
وتُقدِّر مؤسسة “جي بي مورغان” أن هذه الرسوم ستضيف نحو نقطتين مئويتين إلى معدل التضخم الاستهلاكي الأمريكي في عام 2025، فيما تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حدوث ارتفاع بمقدار 10 نقاط في التعريفات الجمركية العالمية؛ ما يمكن أن يؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.3%، ورفع التضخم العالمي بنسبة 0.4 نقطة سنوياً. ولا شك أن هذه التداعيات التضخمية سوف تضرب اقتصادات جنوب شرق آسيا.
3 – الاستجابات السياسية ومخاطر الركود: في مواجهة هذه التحديات، من المُتوقَّع أن يُسارِع صناع السياسات في جنوب شرق آسيا للحد من الأضرار، لتتحول البنوك المركزية من محاربة التضخم إلى دعم النمو. وكما أشار كبير الاقتصاديين في آسيا لدى بنك “إتش إس بي سي”: “من المرجح أن تمثل هذه الرسوم صدمة كبيرة للنمو في المنطقة، ومن المرجح أن تعطي البنوك المركزية الأولوية للنمو على حساب التضخم”.
ولما كانت آسيا “تتحمل العبء الأكبر” من الرسوم، فقد خفَّضت مؤسسات مثل “غولدمان ساكس” توقعاتها للنمو في دول مثل ماليزيا وإندونيسيا. وإذا تراجعت كلٌ من إيرادات التصدير والعائدات الحكومية، قد تجد الدول الآسيوية صعوبة في تمويل البرامج الاجتماعية أو مشروعات البنية التحتية، ما يثبط التنمية طويلة الأجل؛ الأمر الذي سوف يواكبه أيضاً تقلص السيولة محلياً، وزيادة احتمالات الركود في أكثر الاقتصادات تضرراً. هذا وتُقدِّر “جي بي مورغان” الآن احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم بنسبة 60% – ارتفاعاً من 40%– جراء “الرسوم الأمريكية الجديدة”.
بينما ركزت التحليلات الأولى لرسوم “يوم التحرير” الجمركية على التداعيات الاقتصادية، فإن التأثير الجيوسياسي لها لا يقل أهمية، بل قد يكون أكثر استدامة وخطورة؛ فمنطقة جنوب شرق آسيا ليست فقط ساحة إنتاج وتصدير، بل هي منطقة حيوية في التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ومع تصاعد السياسات الحمائية الأمريكية، تجد دول آسيان نفسها في خضم معادلة جديدة من إعادة تموضع النفوذ، تتشابك فيها المصالح التجارية مع الرهانات الجيوسياسية.
1 – النفوذ الأمريكي مقابل فرصة الصين: بعيداً عن الاقتصاد، تحمل الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة تداعيات جيوسياسية عميقة في جنوب شرق آسيا؛ فقد أدى التصعيد التجاري الأمريكي المفاجئ إلى توتر علاقات واشنطن مع منطقة طالما سعت إلى التقارب معها كشريك استراتيجي، واعتبرت الأسواق والاستثمارات الأمريكية توازناً ضرورياً أمام هيمنة الصين. لكن هذه الآمال تعرضت لانتكاسة بفعل ما وصفه أحد المراقبين بأنه “تحول فج وقسري” في سياسة واشنطن. وإذا خفَّضت دول جنوب شرق آسيا اعتمادها على السوق الأمريكية المتقلبة، فإن علاقاتها قد تتعمق مع الصين لاستيعاب جزء أكبر من تجارتهم واستثماراتهم. وينطبق ذلك بشكل خاص بالنظر إلى الواقع الجغرافي والتشابك في سلاسل التوريد؛ فالكثير من مصانع آسيان تعتمد على المكونات الصينية، وتبقى الصين شريكاً تجارياً رئيسياً لجميع دول جنوب شرق آسيا.
ومن خلال إضعاف الحضور الاقتصادي الأمريكي والثقة به، فإن هذه الرسوم قد تُعزِّز علاقات دول الآسيان بالصين. وكما أشار أحد الخبراء في شؤون المحيطين الهندي والهادئ في تحليل صادر عن “المجلس الأطلسي”، فإن “هذه الإجراءات سيكون لها بلا شك تأثير في مسار المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين في جنوب شرق آسيا”، حيث تقف آسيان في خط المواجهة الأول لهذا التنافس.
2 – وحدة آسيان وردود فعل القادة الإقليميين: مَنَحَت شمولية الهجوم الجمركي الأمريكي – الذي استهدف 9 من أصل 11 دولة في جنوب شرق آسيا– المنطقة شعوراً بوحدة المصير؛ فقد عبَّرت جميع الحكومات المُستهدَفَة عن استيائها. على سبيل المثال، جاءت ردة فعل فيتنام مزيجاً من الصدمة والسعي لإيجاد حلول؛ حيث تفاجأ المسؤولون بفرض تعريفة مرتفعة (46%) رغم جهودها الأخيرة لتهدئة المخاوف الأمريكية (حيث خفَّضت طوعاً الرسوم على السلع الأمريكية مثل السيارات والغاز الطبيعي المسال، بل ووافقت على مشروع سياحي مرتبط بعائلة الرئيس الأمريكي).
لكن فيتنام توقفت عن التصعيد العلني مع توجُه نائب رئيس الوزراء إلى واشنطن للتفاوض بشأن استثناء. وبالمثل، أبدت حكومة تايلاند استعدادها للتفاوض مع واشنطن من أجل تعديل الميزان التجاري بطريقة عادلة؛ حتى إن بانكوك طرحت خططاً لزيادة وارداتها من المنتجات الزراعية الأمريكية (مثل فول الصويا والغاز الإيثيلي) للمساعدة على تقليص فائضها التجاري البالغ 45 مليار دولار أمريكي.
وهكذا، أضحى حلفاء الولايات المتحدة التقليديون مثل تايلاند، وشركاؤها الاستراتيجيون مثل فيتنام، يشعرون بأنهم مستهدفون إلى جانب خصوم واشنطن؛ مما قد يُعزِّز روح التضامن داخل آسيان. وقد يكون التحول الطبيعي تجاه مبادرات إقليمية، وتقاربات اقتصادية مع شركاء آخرين مثل الاتحاد الأوروبي والهند.
3 – أزمة ثقة في النظام التجاري مع الولايات المتحدة: على الرغم من سعي بعض دول الآسيان إلى التهدئة؛ فإن الإحباط من النهج الأمريكي بلغ ذروته في الكواليس الدبلوماسية؛ فطبيعة الرسوم المفاجئة وشموليتها، بعثت برسالة سلبية بأنه حتى الحلفاء المقربون غير مستثنين من السياسات الحمائية الجديدة. فلم تُستثن سنغافورة – التي ترتبط باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية- من الرسوم الأساسية البالغة 10%؛ مما أثار تساؤلات حادة في المنطقة حول مصداقية واشنطن كفاعل تجاري موثوق.
لذا، قد تتعالى الأصوات داخل آسيان لإعادة تقييم الاتفاقات الثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبحث سبل بديلة لتعزيز أمنها الاقتصادي بعيداً عن الاعتمادية أحادية الطرف؛ ومن ثُم لا يُمثِّل الواقع الراهن أزمة تعريفات جمركية فحسب، بل لحظة حاسمة في إعادة تشكيل العلاقة بين جنوب شرق آسيا والولايات المتحدة الأمريكية.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا