مثلما عشنا خلال الثلاثين سنة الماضية ظاهرة ” المتسلفين الجدد “، الذين فرضوا علينا خطاب النقاب واللحية والجلباب القصير، وأن صوت المرأة عورة والفن حرام، نعيش اليوم ظاهرة ” المجتهدين الجدد “، الذين يحاصروننا بخطاب التجديد الدينى، وهم أبعد مايكونون عن التجديد ومتطلباته ومؤهلاته، فشوشوا على الناس فكرة التجديد، ونفروهم منها، لأنهم لابقدمون تجديدا، وإنما يقدمون تشكيكا فى ثوابت الدين، وتجريحا جاهلا فى التراث الإسلامى، وتشويها للرموز التى تحظى باحترام المسلمين وتوقيرهم، ابتداء من الصحابة الكرام وانتهاء بالأزهر الشريف وشيخه المبجل .
والحقيقة أن كلا الفريقين يمثل عبئا على التجديد الدينى، المشروع والمطلوب، كأنهم تحالفوا ـ دون قصد ـ لعرقلة الجهود التى اضطلع بها علماء أجلاء مخلصون للوصول إلى تجديد دينى يناسب العصر، يتحدث بلغته ويستخدم أدواته ويواجه تحدياته، الأمر الذى حرم الأمة من فرصة تاريخية كان يمكن أن تأخذ بيدها لتتبوأ مكانتها بين الأمم صانعة الحضارة .
وكما كان مشروع ” المتسلفين الجدد ” مدعوما وممولا من الخارج لتحقيق تبعيتنا لهذا الخارج الذى امتلك المال والنفوذ، فإن مشروع ” المجتهدين الجدد “، الآخذ فى التوسع والانتشار، يحظى هو الآخر بدعم وتمويل من جهات خارجية، تريد أن تحقق من خلال هذه الأذرع مالم يحققه الاستعمار القديم، ولذلك فهى تتولاها بالرعاية، وتسخر لها الإمكانات المادية والنفوذ والإلحاح الإعلامى .
و قد ظهر ” المجتهدون الجدد “وقويت شوكتهم فى الوقت الذى كان المتسلفون ينسحبون تدريجيا من المشهد، بعد أن أدركوا أن زمانهم ولى، وعليهم أن يحملوا عصيهم وحبالهم ويغادروا المسرح، لكن المشكلة أن هؤلاء الذين يظنون أنفسهم مجتهدين لايملكون مثقال ذرة من مؤهلات الاجتهاد، وليس لهم قبول عند أهل العلم وعند الجمهور، وما قدموه حتى الآن ليس إلا لونا من التهريج الغوغائى، والجرأة المقيتة على ثوابت الدين، والافتراءات الكاذبة المرفوضة، فكانت النتيجة أنهم لم يقنعوا الناس برسالتهم وخطابهم، وباتوا معزولين بدعوتهم، ولم يملأوا الفراغ الذى تركه المتسلفون، كما كانوا يأملون ويأمل داعموهم .
ومن سوء حظهم أنهم انكشفوا وافتضح أمرهم ودورهم، وتبين للكافة أنهم مقلدون مأجورون، يرددون شبهات المستشرقين الكارهين للإسلام ورسوله، وأنهم كاذبون مدعون، لايملكون من العلم شروى نقير، وأن المكان الوحيد الذى يليق بهم هو إعادتهم إلى مدارس التربية والتعليم، ليتعلموا العلم والأدب، وفضيلة التواضع .
ومع ذلك، فهناك من ينفخ فيهم، ويلتمس لهم العذر، ويدعى أنهم مجتهدون، والمجتهد إذا أخطأ له أجر وإذا أصاب فله أجران، مع أن العبارة لاتنطبق عليهم فى شيء كما هو واضح، لأنهم لايقدمون اجتهادا، وإنما هم مخربون أغبياء، يبتغون فتنة الناس فى دينهم ودنياهم .
شاهدت بعض فيديوهات لأحدهم، ممن تردد اسمه مؤخرا، فهالنى حجم الجهل والغرور الذى يتملكه وهو يلقى بقاذوراته وبذاءاته، كأنه صدق نفسه بأنه مجتهد مجدد، وهو باسم الاجتهاد ينكر الآية الكريمة : ” لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد “، وينكر ” وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم “، ويزعم أنه اكتشف فى القرآن الكريم تثليثا يشبه التثليث المسيحى، وذلك فى قولنا ” بسم الله الرحمن الرحيم “، الذى ـ حسب قياسه الجهول ـ يساوى ” بسم الآب والإبن والروح القدس ” !!
هذا الدعى الأخرق ينكر السنة، ويسخر من علمائها وممن يدافعون عنها، ويطالب بإحراق كتاب البخارى وكتب السنة، ويصل به الأمر إلى التطاول على مقام النبى صلى الله عليه وسلم قائلا : ” من أراد أن يقلد النبى فعليه أن يذهب إلى جبلاية القرود ” !!
ولا يتورع هذا الكذاب الأشرعن تشويه الإسلام بجرأة مقيتة، فيؤكد أن ” مفهوم المرأة فى الإسلام هو أحط مفهوم للاضطهاد البشرى للبشر “، ويزعم أن ” الفتوحات الإسلامية كلها كانت متجهة إلى الشمال من أجل المرأة البيضاء، ولم تتجه للجنوب حيث المرأة السوداء “، ويطالب الأزهر بالاعتذارعن هذه الفتوحات ” التى ذبحوا فيها الناس وانتهكوا الأراضى والبيوت والقصور، وأسروا الأطفال، ووأدوا النساء “، وينتهى إلى تكفير من يعتقد بأن الفتوحات كانت جهادا فى سبيل الله .
وفى أحد مؤتمراته المشبوهة فى فرنسا يقدم صورة مشوهة عن الإسلام والأزهر، فيسخر أمام الأوروبيين من أمته الإسلامية قائلا : ” أنا لم أسمع عن أمة تتبع العته والخرق الفكرى وتتخذه دينا إلا أمتنا، فقد أصبحت عقولهم تقبل القتل والعدوان والخرافة، ومن ضمنها إرضاع الكبير، يعنى المرأة ترضع من ثديها رجلا كبيرا مثلى، والأمة كلها تقبل ذلك “، وهنا ينفجر الحضور بالضحك، استهزاء وسخرية، ثم يتهم مناهج الأزهر بأنها تحمل فكر داعش، زاعما أنهم ” يدرسون فى الأزهر قتل الأسير، أو قطع يديه ورجليه، أو قطع يد واحدة ورجل واحدة “، ثم بعد ذلك يطلب من الجمهور ـ الأوروبى ــ تشجيعه لإنشاء جامعة إسلامية، كمنظمة تعليمية غير حكومية، لشرح الدين الوسطى الصحيح الذى يحمله، فيصفقون له بحرارة .
هذا غيض من فيض إبداعات هذا السمسار، الذى يتاجر بدينه وأمته، ورغم ذلك يدافع عنه أبناء القبيلة العلمانية فى بلادنا، ويصفونه بأنه مفكر مجتهد وباحث مجدد، وماهو إلا معول هدم مثلهم تماما، وقد كان منهم من رقص على إيقاع الآية الكريمة ” هلك عنى سلطانية “، وسخر ممن يقرأ القرآن فى الصيدلية، ومنهم من حرض ضد ارتداء بنات الأزهر للحجاب، ومن استنكر صلاة التلاميبذ فى المدارس، ومن تسمع الأذان فتسد أذنيها، ومن يكره تحفيظ القرآن للتلاميذ فى سن صغيرة .
فيا أصحاب العقول، بالله عليكم، هل هؤلاء مجتهدون مجددون، أم كارهون مخربون؟!