القضية الوطنية اليمنية ، كانت تعني فيما تعني قضية الوحدة اليمنية ومبدأ استقلال القوى الوطنية في اليمن وهذا ، الأمر مضمر في وثائق وأدبيات الحركة الوطنية اليمنية ممثلة بأحزابها القومية واليسارية . لكن الا تدعونا الأحداث ولاسيما بعد حرب مارس 2015 وحتى اليوم الى مراجعة هذا المفهوم ؟ اليست هنالك قضية وطنية جنوبية بكل تعالقاتها وأبعادها ومسائلها الإشكالية ، كما توجد اليوم قضية وطنية شمالية تنطوي على مهمات وموضوعات سياسة غير منجزة وتتطلب من أبناء الشمال مواجهتها وحلها ..اذا” لم تعد القضية الوطنية اليمنية هي قضية الشمال والجنوب ،
لقد سلخت الاحداث هذا المفهوم واصبح لليمن قضيتان :القضية الوطنية الجنوبية والقضية الوطنية الشمالية . وكلتا القضيتان معقدتان من حيث قضاياهما الفرعية و قواهما الفاعلة ومن حيث طبيعة الهوية وطبيعة الانتماء
. إن سياسة النخبة الحاكمة في اليمن كانت هي نفسها أحد المعوقات امام ترسيم الهوية الوطنية التي تعترف بالثقافات والهويات المتعددة في داخل جسدها الواحد ، بل عمدت على اتباع اسلوب الإلغاء والتهميش للأخر وأسست سياسة التعامل المتحيزلنوع من الهويات القاتلة كما يقول أمين المعلوف في كتابة (الهويات القاتلة)
.لذا فإن فشل الدولة في واجباتها وسياساتها هو في الأساس فشل في تعزيز الانتماء الوطني ومن ثم تظهر الصراعات السياسية والعنف الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى البحث عن الهويات السابقة ليحتمي في ظلها الناس والدفاع عن هوياتهم.
وعليه فأن اليمن بهذا الخصوص معرض للمخاطر والانقسام الداخلي نتيجة المخزون الكبير في العصبيات المختلفة وغياب الهُوية الوطنية لذا فإن أي مشروع وطني غير قابل للنمو بالنظر إلى الواقع المعاش اليوم بوصفه بيئة غير قابلة لا نجاحه بسبب غياب الأدراك الواقعي والعلمي لحجم هذه المخاطر لدى النخب السلطوية بمختلف اتجاهاتها الفكرية الذي وصل بهم الأمر إلى حد الغائم التام لتلك الحقائق وإنكارهم لها ، بل وتجريم الحديث عنها كما تم مع قضية الجنوب.
أن اليمن اليوم يمر بأسوأ وضع عرفه التاريخ فاستمرار أمد الحرب تبدو ملامحها في الواقع واضحة كما خطط لها من قبل القوى المستبدة في الداخل والخارج على حد سواء ، وهذا الوضع هو حصيلة لما خلفته النظم الاستبدادية والثقافة الاستقوائية ومصادرة حقوق الأخرين والفساد المستمر للسلطات طوال المراحل السابقة التي انتجت ثقافة الاستبدادية
والغلبة والولاءات الفردية ، والنهب المنظم للثروات وفي مقدمتها ثقافة الاستبداد الهمجي الذي عمد إلى الغاء كل ما يتصل بهوية الجنوب ، وعدم الاعتراف بالحق الشرعي لشعب عاش آلاف السنين كدولة ذات سيادة مستقلة وقد تجسد هذا الإلغاء على صعيد الواقع والفكر ، فعلى صعيد الواقع تم الضرب الممنهج للجنوب منذ حرب 1994م، كشعب ودولة ذات هُوية ، وعلى صعيد الفكر تم أنكار هذا الحق بالحديث عن اليمن الواحد وواحديته بمفاهيم صماء ، وتم إخفاء صوت الحق القائم على أساس الهويتين لشعبين ودولتين ، واختفت الوحدة من الواقع وبقي الحديث عن وحدة مجردة من مضامينها والمراد منها إخفاء مطامع قوى محدودة بذاتها . ولم يتم الاعتراف بأن هذا الحق وهذه الخصوصية التي انطلقت منها فكرة ومشروع الوحدة تعود إلى هوية الشعبين والدولتين التي تكونت عبر آلاف السنين .
اتجهت هذه الذهنية نحو إدخال اليمن شماله وجنوبه في نفق مظلم مخيف كما يتجلى في المشهد اليوم وعدم التفهم للخصائص الرئيسية لليمن بعامة الذي يتصف بالتنوع في هُويات انتماءاته المجزؤة والمتجذرة في التنظيم الاجتماعي ، الذي تشكل عبر مراحل التاريخ الطويل ، فانتشار السكان على رقعة الأرض ” المكان” هي التي كونت التجمعات البشرية والتنظيمات الاجتماعية بدءا بما عرف بالشعوب والقبائل ومن ثم الدول ، هذه التكوينات قد حملت سمات التنوع المكاني واتصف كل مكان بسمته الخاصة في نمط العيش والثقافة والتنظيم الاجتماعي (كهوية مستقلة )،
وقد لعبت المرجعيات المكانية دوراً أساسياً في تفاعل الأنسان عبر التاريخ الاجتماعي من الماضي التقليدي إلى الحاضر السياسي والتي تتخذ فيها الهوية طابعاً تقليداً متأثراً بمرجعية الأرض أولا والتي تتصف بأنها شديدة التعقيد والتنوع الجغرافي في اليمن .
فمنذ القدم توزع الناس في اليمن بين مجموعات سكانية أو شعوب متجاورة أو مجتمعات محلية مستقرة لها طابع الحكومات والدول المستقلة والإقليمية التي تمثلت سياسياً في مجموعة اتحادات شكلت دول بذاتها مثل ” سبأ ، معين ، حضرموت، حمير، قتبان ” ازدهرت فيها الحياة وعُرفت بأنها منطقة إشعاع للحضارة.
لذا يمكن القول ان اليمن هو بانوراما حقيقية متأثر بالمرجعية الأم وهي الأرض، والتي تعد الحاكمة التي اُستند عليها التكوين الاجتماعي والثقافي ، وجاء التمييز تبعاً لهُوية الأرض ، فدولة الجنوب كانت تستند على مرجعية الأرض ولهذا فالمطالبة باستعادة الدولة هو استعادة لهُوية السكان المنتمي إلى هذه الأرض التي قامت عليها الدولة وتشكل فيها المجتمع عبر آلاف السنين ، فمرجعية الأرض أو عبقرية المكان كما يقول علماء الاجتماع هي التي تولدت عليها المرجعيات السياسية والثقافية .
تبرز الغارات الاستعمارية على هوية اليمن في ميدان الصراع كما يؤكد الكاتب والمؤرخ الكبير محمد ناجي أحمد من خلال ” مؤامرة التقسيم والتجزئة أو ما سمي بأقلمة اليمن واستحداث هويات قاتلة وأوهام من مثل الحديث عن هوية يمنية وهوية جنوبية وتفكيك الجيش والذي بدأ مع حكم المبادرة الخليجية وصولا إلى خلق المناطقية والمذهبية والجهوية والعنصرية “…
في هذا السياق تحرك العدوان بكل ثقله، وعن وعي بتاريخ اليمن على اعتبار أن تفكيك اليمن وفقا لناجي لا يتم الا من خلال معرفة تاريخ اليمنيين يقول ” فكرة الأقيال والحميرية السياسية وتخليق مصطلح الأقيال لم يكن عفويا ، إذ ترتبط هذه الحالة بمرحلة تفكك الدولة المركزية في اليمن ، التي ظهرت بين القرن الثالث قبل الميلاد الى القرن الأول وتحول معها الموظفون في عدد من المناطق اليمنية الى امراء دويلات وسموا انفسهم بالأقيال “.
قوات النخبة وغيرها من جماعات مسلحة كمظهر اخر من مظاهر استهداف هوية اليمن ” ما يعرف بالنخب، الشبوانية ، الحضرمية والسقطرية ومقاومة تهامة وازال وغيرها هي مظهر اخر من مظاهر استهداف هوية اليمن وتفتيتها ، لأن العدوان يضع في حساباته إيجاد كانتونات تتذرع بهويات قاتلة تستند لعصبيات بدائية وتخدم أهداف العدوان على اليمن وهو مظهر من وجهة نظري كان يتوارى قبل العدوان خلف الأقلمة القبيحة بقناع “الفَدْرَلَة “…
أن ” مشروع الأقلمة كمظهر من مظاهر العدوان على هوية اليمن يتضح أكثر مع معرفة أنه فرض خارج مؤتمر الحوار الوطني ورغما عن إرادة اليمنيين ودون توافق عليه بل ومع وصول الأطراف والقوى اليمنية المختلفة في المقابل إلى وثيقة في غاية الأهمية ــــ اتفاق السلم والشراكة الوطنية ـــ أكدت ضرورة إعادة بحث شكل الدولة
غير أن ذلك يمثل الذود الدائم عن الهوية اليمنية المحطة الأولى في معركة البناء ويشكل حافزا في معركة المستقبل ، إن غياب الاعتزاز بالذات بشكل أو بآخر هو أحد الأسباب التي راكمت جمود الفعل الحضاري في الوسط الإسلامي ولا يمكن الوصول إلى مستوى متقدم من الندية للأمم الأخرى في مجالات الإنتاج الحضاري، دون أن يعرف العالم الإسلامي من هو ويعرف أيضا من هو عدوه ، الهوية هي الأصل الذي ترتكز عليه جميع الأبنية وتتأثر به
ويجري به امتلاك عقول ونفوس كل الشعوب لإثبات الوجود واستحقاق الاستمرار في ظل التحديات الراهنة في عصر العولمة ولإنجاز التأثير والتغيير، وهذا كله يحتاج إلى قيام المؤسسات المختلفة داخل المجتمع بدورها المناط بها بدءا من الأسرة فالمدرسة فالجامعة وغيرها
وبما يمكننا من التعامل مع الكيانات الأخرى من موقع الندية وليس من موضع التبعية ودور المنفذ الذي تُملى عليه السياسات من الخارج ، ومن واقع التمسك بثوابت الأمة والتأكيد على الهوية الإيمانية للعالم الإسلامي باعتبارها شرط بقاء ودعامة نهضة للأمة الإسلامية وبالمثل للشعب اليمني..
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
Virus-free. www.avast.com