نشر موقع شبكة ” بى بى سى ” البريطانية قصة فتاة تدعى “بيرسيفونى ريزفى”، تعيش حياة العربدة والضياع، ليلها خمر وسجائر ورقص، ونهارها قلق وضجر وسأم، لم تشعر يوما بالسعادة، كانت عدوانية مثل ثور هائج تحطم كل شيء أمامها، حتى كادت أن تحطم نفسها وتنتحر، مرت بتجارب استنزاف عاطفى دمرتها نفسيا، لم يكن لحياتها معنى أو هدف، ودائما كان ينتهى بها الحال إلى الكحول لتغيب عن الوعى وتنسى بؤسها.
فى إحدى عطلاتها الصيفية من الدراسة عملت فى مركز اتصالات، وهناك تعرفت على صديقة مسلمة تدعى حليمة، توثقت علاقتهما، وفى شهر رمضان فكرت أن تجرب الصيام مع حليمة من باب المجاملة والمشاركة، ودخلت فى تحد شخصى مع نفسها، أن تمتنع عن الطعام والحفلات والخمر 30 يوما، ومن هنا بدأت تراودها أفكار التغيير، وولد الصيام لديها مشاعر الإيثار والامتنان، وجعلها تدرك أن لها قيمة أفضل مما هى عليه، فكانت هذه بطاقة دخولها إلى الإسلام، وبعد أن نطقت بالشهادتين والتزمت دينيا تغيرت حياتها تماما، وتغيرعالمها.
تقول:” الإسلام فعلا أنقذنى، جعلنى أهتم بصحتى النفسية والجسدية، أصبحت أكثر احتراما وسلاما، وأشعر براحة أكبر، متصالحة مع نفسى، وأكثر إدراكا للعالم، وكيف تؤثر أفعالى على الآخرين، الرجال لم يعودوا يزعجوننى بعد أن ارتديت الحجاب، وأزلت أظافرى الطويلة المستعارة، ومزقت صورى غير اللائقة، رحبت بى الجالية المسلمة بحرارة، وصديقتاى توحيدة وريما تمثلان بالنسبة لى الدليل الذى يقود خطاي للخير ودخول الجنة، فهما تذكرانى طول الوقت بأن هذه الحياة ليست مستقرنا الأخير، وأننا سنحاسب على أعمالنا، وفى الآخرة سيكون الجزاء الحقيقى”.
اهتمت ” بى بى سى ” بقصة بيرسيفونى ريزفى، وتم إنتاجها فى فيلم وثائقى، تكشف فيه الفتاة كيف أنقذ الإسلام حياتها، ويتحدث فيه أشخاص حقيقيون عن وقائع حقيقية فى أماكن حقيقية، والغريب أن الإعلام هناك يهتم بهذه القصة بينما ننشغل نحن بإنتاج مسرحية ” المومس الفاضلة ” لجون بول سارتر، الفيلسوف الفرنسى الوجودى الملحد.
ذكرتنى قصة بيرسيفونى بمسرحية كنت قرأتها منذ سنوات طوال للدكتورعامر النجار أستاذ الفلسفة الإسلامية بعنوان ” العودة “، ثم سمعتها قدرا فى أداء تمثيلى رائع من إذاعة البرنامج الثقافى بعنوان ” سارتر..وأنا “، تتناول الصراع بين الالحاد الذى يمثله سارتر، والإيمان الذى انتهت إليه بطلة الرواية فأنقذها من الضياع.
سارتر لا يرى في الوجـود إلا الإنسان، ويعتقد أن الإنسان وجد هكذا بالصدفة، أو أوجد نفسه، وكون شخصيته، وكذلك الطبيعة صنعت نفسها، وقد أغرق في تعظيم الإنسان باعتباره محور الكون، وسخر من وجـود إله خالق، وبالتالي سخر من الأديان والقيم، وابتدأ مـشـروعـه الفكرى بالدعوة إلى الحرية الكاملة، والتمرد على أية قيود، لكنه انتهى إلى اليأس والإحباط، والكتابة عن القلق والضجر والسأم والملل .
تحكى المسرحية على لسان بطلتها قصة نجمة سينمائية فرنسية تدعى « لی لی »، تخرجت في قسم الفلسفة، وكان ابن عمها د.شارلي ـ الذي يكبرها بـ 15 عاماً ـ أستاذاً لها في الكلية، فأرضعها عشق سارتر وفلسفته إلى درجة الهوس الذي لا يقبل النقاش، خاصة أن شارلي هذا قد بنى شهرته ومجده على مجرد كونه كاهنا فى محراب سارتر، يشرح فكره ويدافع عنه، ورغم أنه إنسان كريه فظ، إلا أنه استطاع بكلماته المعسولة وعبارات الفلسفة الفخيمة أن يسيطر على « لي لي »، ويجعلها تترك زوجها المخرج السينمائي الناجح، لتعيش معه دون زواج حياة العشق والحرية والتمرد، كي يكررا معاً سيرة سارتر وعشيقته سيمون دي بوفوار.
ويدفعها تطرفها الوجودي إلى أن تهزأ من أمها وأبيها المسنين حين جاءا يردانها عن طريق الغـواية، ويذكرانها بأنها لا تفكر إلا في نفـسـهـا وغرائزها و شيطانها المسمى “شارلى”، بل تهزأ من خالها القديس، الذي اشتهر في الحياة الفكرية بالدفاع عن الفضيلة، والتحذير مما ستؤول إليه البشرية من دمار وخراب بسبب الإلحاد والابتذال والتحلل الخلقي والغزو الثقافي الأمريكي، وأيضا تهزأ من صديقين لها من أساتذة الفكر والفلسفة، كانا من رواد الإلحاد، ولكنهما فجأة تحولا إلى الاسلام، وأحدثا بذلك ضجة في الحياة العامة، هما د. برازنكوف ود. باشاروف.
وبعد عامين من حياة الابتذال التي عاشتها ” لى لى ” مع “شارلي” تسرب إليها القلق والضجر والسأم واليأس، وأدركت بفطرتها، أو ببذرة الايمان القابعة في داخلها، أن الحياة التي تحياها بلا معنى وبلا هدف، حياة عبثية، وهنا يعرض عليها صديقاها د. برازنكوف ود. باشاروف أن تقرأ في الأديان، وتحكم عقلها وفكرها، حتى تصل بنفسها إلى الحقيقة .
وتقرأ “لى لى” في كتب الأديان رغم ثورة شـارلـي ورفـضـه، وتصل في النهاية إلى الاقتناع بدخـول الاسلام، فهو الرسالة الخاتمة، وإيمانها بمحمد لا يكتمل ولا يصح إلا بإيمانها بالمسيح ومـوسى،عليـهـم الصـلاة والسلام، وتتـحـول “لى لى” إلى مؤمنة موحدة، كسبت محمد ولم تخسر المسيح وموسى، وبهذا الإيمان تتحقق الطمأنينة النفسية والحرية الحقيقية، ويصبح للحياة معنى، ويذهب عن الانسان القلق والسأم واليأس، بينما يظل شارلي على عناده وابتذاله .
بقى أن تعرف أن د. عامر النجار مؤلف هذا العمل الدرامي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة قناة السويس، ونائب رئيس جمعية التراث العلمى فى الحضارة الإسلامية، وأحد المهتمين بالفكر الإسلامى والتجديد الدينى والتصوف وعلم الكلام وحركات الإصلاح الحديثة، وعضو لجنة تحقيق التراث بدار الكتب، وله مؤلفات عديدة فى الدراسات الإسلامية وتحقيق التراث، وتعد مسرحيته هذه ” العودة ” أو ” ساتر.. وأنا ” نموذجا للفن المسرحى الذى يشتبك مع الواقع بمرجعية إسلامية مستنيرة.