تأليف القلوب هو العمل الأصعب والأعظم. الذي يمكن أن يتحقق في دنيا الناس .فقد تتآلف المصالح والقلب على ما به من تباغض فالمصالح تلجىء الإنسان إلى قبول عدوه بعيدًا عما في النفوس وانتظارا لفرص الانقضاض على الحليف بعد غياب المصالح، وقديمًا قال الشاعر:
“وقد ينبت المرعب على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كما هي” .
والقلوب مكمن المشاعر والروابط الصادقة التي من شأنها أن يضحي الإنسان بماله ونفسه في سبيل من وما يحب وقد صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يخاطبون رسولهم صلوات الله وسلامه عليه قائلين بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وقد يضحي الإنسان بالغالي والنفيس في سبيل تنفيس ما في قلبه من كراهية وغل لآخر لذا عندما تحدث القرآن الكريم عن إيمان الصحابة وحبهم بعضهم؛ وهم من كان بينهم وبين بعضهم من العداوات ومن الشعور بالاستعلاء والأنفة من الانقياد لأحد مالا يتصور أحد تغييره فألف بين قلوبهم وليس بينهم .يقول تعالى في سورة آل عمران :”وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ “وفي لسان العرب ألف الشىء لزمه وآلفه إياه : ألزمه به وألفت فلان أي آنست إليه وألفت بينهم تأليفًا إذا جمعت بينهم بعد تفرق. وقد وصف رجال قريش الذين أخذوا العهود مع من حولهم من الملوك بالأمان للقرشيين في رحلاتهم التجارية بأصحاب الإيلاف وهم أربعة:هاشم ،وعبد شمس ، والمطلب ،ونوفل وكلهم أبناء عبد مناف كما كانوا يؤمنون المستجيرين أي الخائفين اللاجئين إليهم وذلك قبل الإسلام. وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :”وقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف هاشم وكان هاشم بن عبد مناف قد أخذ من الملوك لقريش أي تعهدوا له بألا يعتدوا على قوافلهم التجارية ولا يسمحوا لأحد بذلك .
ويرى بعض المفسرين أن قوله تعالى “لإيلاف قريش” هو تعليل لماقبلها في سورة الفيل أي لعملية إهلاك إبرهة الحبشي ومن معه حتى لا يكونوا حائلا بين القرشيين وبين تجارتهم ويفهم منها أيضا أن عملية الاهلاك أشعرت القرشيين بالحماية الإلهية فتألفوا وكذلك لشعورهم أيضا بالتميز عند الله لأنهم سدنة بيته ومجاوروه وقد ذكر المفكر الدكتور طه حبيشي أن غزو أبرهة لمكه كان من أهدافه التي تشغل الروم الذين أمروه بذلك القضاء على مكة كمركز تجاري ” تجبى إليه ثمرات كل شىء” . و هناك من يفسر الآيات على أن الله رزقهم الرحلتين التجاريين ليتآلفوا ولا يتقاتلون سواء فيما بينهم أو ميما بينهم وبين القبائل من حولهم لأن التجارة والمال يحتاج الأمن والتعاون .
وعندما يستطيع رجل في أقل من عشرين عامًا أن يحوّل قومًا كانوا في أسوأ ما تكون عليه المجتمعات من حروب دموية وثارات وتباغض لا يتصور علاجه وكذلك في أسوأ ما تكون عليه المجتمعات من فردية وتشتت وعدم الانصياع لنظام ،وكذلك حالة الطبقية والانقسام بين أحرار قلة وعبيد كثرة في نظام يتعامل مع العبد باقل ما يتعامل به مع الدابة – عندما يستطيع رجل أن يقضي على هذا كله ليس بين الناس في ظاهرها وإنما بين قلوبهم أي أنهم أصبحوا أخوة بالقلوب وليس بالمصالح والنظام المجتمعي .هنا يفهم المتأمل قوله تعالى :وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾63.الانفال