فاجأنى سائق التاكسى الأمريكى العجوز عندما عرف أننى مصرى بأن سألنى: وما هى أخبار الرئيس السادات؟ فظننته يمازحنى، فأجبته قائلا: رحمه الله. فظهر الانزعاج الشديد والتأثر الواضح على تجاعيد الرجل الذى بدا أنه جاد فى سؤاله، وكان من الواضح من بقية نقاشى معه أن الرجل قد توقفت معلوماته عن مصر عند الرئيس السادات، وإن شئت الدقة هو لا يعرف عن مصر أصلا أى شيء قبل السادات ولا بعده. يعرف فقط أن السادات قاد مصر فى نصر اكتوبر العظيم ثم وقّع اتفاقية السلام التى غيرت شكل النزاع العربى الاسرائيلى.
حتى الأقصر مدينتى وبلدى ووطنى ومرتع طفولتى وصبايا وأحلامى والتى أفتخر دائما بها حيث تساعدنى دائما فى بدء النقاش مع أى أجنبى، اكتشفت أن هذا الرجل لم يسمع عنها طيلة حياته التى أعتقد من هيئته أنها قد تجاوزت التسعين وإن كان طبعا فى حيوية الخمسينيات لدرجة أنه يعمل سائقا فى تلك السن.
الطريف أننى كلما حاولت أن أشرح له التطورات التى حدثت فى مصر على جميع الأصعدة أظهر عدم اهتمام وعاد بى مرة اخرى للحديث عن السادات. ظننت أن الرجل ربما يكون يهوديا لذا لم تعلق فى ذاكرته عن مصر غير السادات والحرب والسلام مع إسرائيل لكنى كما سبق ان قلت اكتشفت من جديد أن الرجل وهو من أصول أفريقية وان كان وُلد فى امريكا لا يهتم كثيرا بالتاريخ خارج الولايات المتحدة الأمريكية. حتى عندما أخبرته بأن أمريكا من ناحية التاريخ لا تغدو أن تكون مثل الطفل الرضيع أو ربما الذى لم يولد بعد مقارنة بتاريخ بلادى لم أنجح فى استفزازه كما كنت أتخيل. بل كان ينظر لى بوجه لا تظهر عليه أية انفعالات من أى نوع.
قلت له: إذن دعك من السياسة ومن التاريخ، لا بد أنك سمعت عن محمد صلاح فخر مصر والعرب ونجم الدورى الإنجليزى، فقال الرجل إنه لا يعرف أسماء سوى بعض نجوم فريق شيكاغو بولز فى كرة القدم الأمريكية التى تختلف كلية عن كرة القدم التى نعرفها ويعرفها العالم كله والتى يطلقون عليها فى أمريكا «سكر بول». هذه هى اللعبة الشعبية الأولى فى الولايات المتحدة وقد حاولت مرارا وتكرارا أن أفهم قواعدها فلم أنجح رغم الاستعانة بأكثر من صديق أمريكى، فهى بالنسبة لى مجرد خناقة بين مجموعة بلطجية يحاول كل منهم أن يستحوذ على الكرة بكل الطرق غير المشروعة.
حاولت استدراج الرجل للحديث بالتفصيل عن هذه اللعبة لكنه فاجأنى بأن سألنى: هل كان الرئيس السادات يمارس كرة القدم الأمريكية؟!، قلت للرجل وقد بدأ صبرى ينفد: ما الذى يجعل رئيسًا مصريًا يمارس كرة القدم الأمريكية؟! فوجدها فرصة وعاد يسألنى: فما هى إذن الرياضة المفضلة للسادات؟!
قلت لنفسى إن الطريقة الوحيدة التى ربما أنجح بها فى جذب الرجل للحديث بعيدا عن السادات أن أسأله عن رأيه فى اجتياح روسيا لأوكرانيا وموقف الرئيس الأمريكى بايدن الذى كان قبل الاجتياح يهدد ويتوعد روسيا من أن تقدم على هذه الخطوة وإلا سيكون له موقف لن يتوقعه أحد، لكن عندما وقعت الفأس فى الرأس تراجع تماما عن تلك التصريحات النارية وقال إن القوات الأمريكية لن تشارك فى أية اشتباكات!، لكن السائق الأمريكى طلب منى أن أحكى له بالتفصيل كيف نجح السادات فى خداع الجيش الاسرائيلى فى حرب اكتوبر ١٩٧٣ وخطته لاجتياح خط بارليف المنيع وعبور قناة السويس؟!
فى هذه اللحظة كنت قد وصلت لوجهتى وهممت بمغادرة التاكسى وسائقه الغريب، كان العداد تقريبا سبعة دولارات ونصف دولار فمددت يدى بعشرة دولارات بعد أن خرجت للشارع وقلت للرجل احتفظ بالبقية لك، لكنه لم يمد يده ليأخذها وقال لى بلهجة حاسمة: لو كان فعلا السادات مات فأرجو أن تعطى هذا المبلغ لأى فقير على روحه الطاهرة، ثم لم ينتظر منى ردا وانطلق بسيارته يبحث عن زبون آخر!