أسهمت بعضُ النظم الشرعية ـ كما أسلفنا ـ في ظهور الفنون الإسلامية الجميلة، وكان لها دور في غرسها في الوعي الاجتماعي العام. وكان نظامُ الوقف من أهم تلك الأنظمة الشرعية التي نمت في ظلها الفنون الجميلة وتنوعت وازدهرت على مر العصور. وقد كَشَفْتُ في دراسةٍ سابقة عن أن نظام الوقف الإسلامي كان له دور فاعل وحيوي في خدمة المقاصد العامة للشريعة بصفة عامة
. وأُبَيِّن هنا كيف أن «نظام الوقف» قد دعم القيم الجمالية والفنية في حضارتنا الإسلامية، ووضع تلك القيم في خدمة مقاصد الشريعة بشكل مباشرٍ، وذلك لأنه انبثق من عقيدة الإيمان بالله ووحدانيته سبحانه وتعالى. وأُحاول الكشف هنا أيضاً عن بعض أسرار العلاقة بين نظام الوقف والآثار والفنون الجميلة؛ حيث لا يعرفُ كثيرون أن الفضلَ يرجعُ إلى «نظام الوقف الإسلامي» في وجود وبقاءِ عدد من المباني والمنشآت الأثرية ذات القيمة التاريخية والفنية والمعمارية التي نستمتع بمشاهدتها، وتزخر بها معظمُ المدنِ والحواضر العربية والإسلامية.
ومن أهم هذه الآثار الوقفية: المساجد، والجوامع، والأسبلة، والتكايا، والحمامات الشعبية، والأسواق، والقيساريات، والقصور، والقباب، والفنادق، والخانات، وزركشات المصاحف والكتب والصحون. ومثل تلك الآثار تزينها -في أغلب الحالات- نقوش بديعة، وزخارف ورسومات رائعة الجمال، فضلاً عن محتوياتها من أعمالِ الفنون الجميلة مثل التحف، والمقتنيات النادرة من: السيوف، والخناجر، والمنابر، والمصاحف، والمخطوطات، والقناديل، والثريات، والأواني، والمشغولات الذهبية والفضية، والسجاجيد، وما شابه ذلك.
من أين أتت العلاقة بين الوقف من ناحية ومقاصد الشريعة والآثار وأعمال الفنون الجميلة الموروثة عن العهود الإسلامية السالفة من ناحية أخرى؟ وما الذي يفسرُ الارتباطَ بين نظريةٍ عملاقةٍ مثل «نظرية المقاصد»، و نظام اقتصادي اجتماعي ذي طابع ديني -هو الوقف- وبين عالمِ الفنون الجميلة وروائع الآثار؟ إن ثمة أكثر من مصدر لتلك العلاقة منها الآتي:
1 – قيامُ الوقف على فكرة «الصدقة الجارية» التي ذكرها الرسول ﷺ في حديثه الذي يقول: «إذا ماتَ ابن آدمَ انقطعَ عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له»
. وقد أسهمت سعةُ أفق المسلمين الأوائل في فهمهم للحكمة من فكرة «الصدقة الجارية»، في توسيع مجال الأعمال الخيرية، وفي إدخال كثير من هذه الأعمال في حيز الفنون الجميلة. فقدماء العلماء لم يقصروا هذه الفكرة على مجرد إعطاء إحسانات نقديةٍ أو عينية للفقراء وذوي الخصاصة؛ وإنما انطلقوا بها إلى ميادين الخدمات والمرافق العامة كافة، وحولوها إلى مؤسساتٍ نافعة منها: الجوامع، والمدارس، والأسواق، ومشافي العلاج (البيمارستانات)،
وأسبلة مياه الشرب النقية، والتكايا، والمكتبات العامة… إلخ. ولما كان الأصلُ المعنوي للوقف هو أنه عملٌ من أعمال التقوى، وقربةٌ إلى الله تعالى طمعاً في نيل ثوابه ودخول جنته، وبما أنه جل شأنه جميل يحب الجمال، وطيب لا يقبل إلا طيباً؛ فقد اجتهد الواقفونَ على مرِّ الزمن في أن تكون قرباتهم الوقفية -وتلك المؤسسات التي أشرنا إليها- في غاية الإتقان، وآية من آيات الجمال الفني والمعماري الأثرى طمعاً في أن يقبلها الله تعالى «ذو الجلال والجمال»؛ وبخاصة أنها حملتْ أسماءهم في كثير من الحالات، وخلدت ذكراهم. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الجامعُ الأزهر، وقبة السلطان الغوري، وسبيل محمد علي بشارع المعز لدين الله، وشقيقة النعمان بالخيامية (وهي كلها من أوقاف وآثار مدينة القاهرة)، والجامع الأموي بدمشق
، والتكية السليمانية التي أمر بإنشائها ووقفها السلطان سليمان بن سليم الأول على أنقاض القصر الأبلق للملك الظاهر بيبرس عند المدخل الغربي لمدينة دمشق، وهي من آثارها المعمارية الرائعة إلى الساعة. وقد وردت أوصافُها المعماريةُ في حجة وقف السلطان سليمان القانوني
2 – ساعد في توثيق العلاقةِ بين الوقف والآثار والفنونِ الجميلة أن الفقهاءَ قد جعلوا للوقف حرمةً مصانة، ولمؤسساته قدسية تجب المحافظة عليها. وقد تجلَّى ذلك فيما ذهبوا إليه من أن «شرطَ الواقف كنصِ الشارع في لزومه ووجوب العمل به»؛ أي أنَّ ما يضعه «الواقف» من شروط ومواصفات خاصة بكيفية إدارة الأعيان الموقوفة تكون ملزمةً وواجبةَ التطبيق، كلزوم تطبيق الأحكام والأوامر الشرعية، سواء تعلقت تلك الشروط بإنشاء مؤسسات خدمية أو خيرية، أو تعلقت بمواصفاتها المعمارية والفنية، أو كانت ذات صلة بحجم الإنفاق عليها وصيانتها وتجميلها وتجديدها كلما لزم الأمر.
وقد دعمت الأحكام التفصيليةُ لفقه الوقف مبدأَ حرمته. ومن تلك الأحكامِ ما يتعلقُ بصرفِ ريع الأعيان الموقوفة؛ إذ نص الفقهاء على أولوية الإنفاق على ما فيه بقاؤها، والمحافظة على المؤسسات الوقفية كالجوامع والمدارس والتكايا… إلخ، حتى ولو استغرقَ هذا البند كلَّ الريعِ.
كما نصوا على تأبيد الوقف ودوامه، وحذروا من تبديله أو إلغائه، وخاصة إذا كان مخصصاً للخيرات والمنافع العمومية. وقرروا كثيراً من الأحكام التي جعلت للوقفِ ولمؤسساته ومنشآته المختلفة شخصية قانونية «اعتبارية» قائمة بذاتها، ومستقلة عن شخصية الواقف وعن ذمته القانونية؛ بحيث لا تزول شخصية المؤسسة الوقفية بموت الواقف، بل تستمر وتبقى صالحة لتحمُل الالتزامات والتمتع بالحقوق. وإذا أضفنا إلى ذلك أنهم أسندوا للقضاء سلطةَ الولاية العامة على الأوقاف، وعقدوا له، وحده، الاختصاصَ الولائيَّ إلى جانب الاختصاص القضائي في النظر في جميع المسائل المتعلقة بالوقف وشئونه
، فسوف يتضح لنا أن تلك القواعد الفقهية والمبادئ التشريعية والتقاليد القضائية قد أسهمت على نحوٍ مباشر في خدمة المنشآت والمباني الأثرية؛ إذ أحاطتها بكثيرٍ من الضمانات المعنوية والقانونية التي كفلت لها البقاءَ والاستمرار؛ حتى صارت -بمرور الزمن- في ذمة الآثار وفنونها الجميلة، ونظمتها القوانين والتشريعات الحديثة، ودخلت في مسئولية هيئات حكوميةٍ رسمية مختصة بشئون الفنون والآثار والثقافة في أغلب البلدان الإسلامية.
3- أسهمت التشريعات القانونية واللائحة الحديثة والمعاصرة أيضاً في المحافظة على الآثار الوقفية وفنونها ومقتنياتها النادرة؛ وذلك بتنظيم مهمةِ الإشراف عليها وإسنادها إلى هيئات رسمية متخصصة ومسئولة. وكانت تلك الهيئات في أولِ الأمر متمثلةً في الدواوين الحكومية للأوقاف أو وزاراتها، ثم انتقلت إلى هيئات الآثار والسياحة والثقافة؛ حسب النظام المعمول به في كل بلدٍ من بلدان العالم الإسلامي.
وحب الحصيد هنا هو: أن «الوقفَ» كانَ إحدى آليات تكوين الثروة الفنية الجمالية والأثرية ومصدراً من مصادر تراكمها عبر العصور في مختلف البقاعِ الإسلامية
. ويدعم هذا الاستنتاج أن نموذج العمارة الوقفية قام على خمسة مبادئ رئيسية تمثلتْ في: الإتقان والمتانة، والمنفعة والوظيفية، والنمو والاستمرار، والذوق والجمال
؛ وذلك طمعاً في أن تلقى هذه الصدقات القبول عند الله سبحانه. وكانت فنون العمائر الوقفية وجمالياتها ذاتَ إشعاعٍ روحي يبعث في النفس الطمأنينة والراحةَ بما أنه تذكير دائم بمعنى الخير وأهميته في دنيا الإنسان وفي آخرته؛ كما كانت ذات جمالٍ مرئي عبرت عنه معايير الجودة والإتقان واختيار الأفضل لأنه قربة إلى الله تعالى. وحافظت أعمال الصيانة والترميم على بقاء تلك العمائر وزيادة قدرتها على تحدي عوامل التعرية بفعل مرور الزمن.
وإذا كان «الخلود» هو السمتُ الأول للآثار، فإن التأبيد هو السمت الأول للأوقاف الخيرية؛ ومن هنا أسهمت سمةُ «التأبيد» في دخول عديد من العمائر الوقفية في ذمة الآثار، وضَمِنَ مبدأ «القربة» إبداعَ كثير من الفنون الجميلة في تلك العمائر الوقفية. إن سمةَ «الخلود» هي أبرز سمات الوقف الخيري. و«الخلود» هو أبرز سمات الآثار والفنون الراقية أيضاً، وهذه وتلك تعتز بها الأمم، وتعتبرها من رموزها الحضارية الباقية على مر الزمن وشاهدة على أصالتها التاريخية وعراقتها الحضارية. وعلى قاعدة الوقف التقت مبادئ «الخير، والجمال، والحق» وهي من صفات الله العليا وأسمائه الحسنى.
خاتمة
ما أود التأكيد عليه هو: أنَّ بحوثَ النظرية العامة للفنون وعلاقتها بمقاصد الشريعة ومحاسنها ومكارمها لا تزال محدودةً. ولا يزالُ الموجودُ من تلك البحوث متفرقاً وغير ناضجٍ، وغير مسبوكٍ أو مسلوكٍ في نظريةٍ عامة. كما لا تزال تلك البحوثُ أيضاً بعيدةً، في أغلبها، عن المضامين التطبيقية والميادين العملية ذات الصلة المباشرة بوقائع الحياة اليومية وما تعج به من تحديات.
وقد حاولتُ إلقاء بعض الأضواء على إشكالية الفنون الجميلة وأهميتها في الإسهام في تحقيق «مقاصد الشريعة» بمعناها الواسع الذي لا يختزلها في جانب «الزجر والعقوبة» وإنما يجمع بين طرفي تحصيل المقصد ابتداءً، وتنميته وحفظه وصيانته انتهاءً. ومن هذا المنظور المقاصدي تبين لي أنَّ أهميةَ الفنون الجميلة نابعة من كونها تعمل في نفس مجالات عمل الدين ومقاصده العليا،
وهي: بناء الوجدان، وتهذيب النفس، وترقية الإحساس، ورياضة الروح بما يسهم في حفظ الصحة العقلية والتوازن النفسي للإنسان؛ وعندما يصبح هذا الإنسانُ في صحةٍ عقلية ونفسية فإنه يكون أقدر على أداء واجباته الدينية، والدنيوية معاً، ومن ثم تتجلي أمامنا الصلة الوثيقة بين مقاصد الشريعة في حفظ العقل وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ الدين وحفظ الحرية من جهة، والفنون الجميلة بمختلف ألوانها كخادم لتلك المقاصد ومعينٍ على تحقيقها من جهة أخرى. وقد لاحظتُ في التاريخ الاجتماعي « للوقف» كنظام شرعي؛ أنه كان في خدمة المقاصد العامة للشريعة، وكان مصدراً لإنتاج كثيرٍ من الفنون الجميلة عندما كان نظاماً حراً ومستقلاً عن سيطرة السلطات الحكومية. أما بعدما أمسى حبيس تلك السيطرة؛ فإنه لم يفقد وظيفتَه الجمالية فحسب، وإنما أضحى مصدراً من مصادر الفساد والإخفاق والقبح العام في المجتمع.
ولسائلٍ أن يسأل: إذا كان الحال على ما وصفت؛ فما العمل ؟. وهذا سؤال ليس مشروعاً فحسب؛ وإنما له أولويةٌ على ما عداه من الأسئلة ذات الصلة بهذا الموضوع. وتحتاج الإجابة عليه إلى اجتهادات نظرية تأصيلية، وإلى جهود عملية تطبيقية. وهنا بعض الأفكار الأولية:
من المهمات المطلوب أداؤها على مستوى التأصيل النظري الآتي:
1- تجديد البحث في مسألة الفن والفنون والجميلة وعلاقتها بالمقاصد العامة للشريعة. ويتعين في الوقت ذاته الاجتهادُ في بناء نظرية عامة للفنون بمعايير المرجعية الإسلامية انطلاقاً من «القرآن الكريم» ثم من أحاديث النبي ﷺ في هذا الموضوع، ثم تكون الاستعانة باجتهادات العلماء وكبار حكماء الإسلام، وليس انطلاقاً من أقوال الفقهاء أو من الفتاوى التي تحصرُ المسألةَ في نطاق جزئي ضيق.
2- القولُ بأن الفنون وجمالياتها هي من مكونات الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها (كما قال الإمام الغزالي وغيره) يفترضُ إعادةَ النظرِ في تصنيفها مقاصدياً ونقلِها من حَيِّزِ «التحسينيات»، أو «الحاجيات» إلى حيز «الضروريات». فكل ما هو فطري هو ضروري بحسب النظرية العامة لمقاصد الشريعة وكلياتها. ويترتب على ذلك وجوبُ العنايةُ بما يحقق هذه الضرورة من جهة الطلب والإيجاد، وبما يصونها من الانحراف أو الزوال من جهة الحفظ. وقد يحتاج الأمرُ إلى إعمالِ المنهج الأصولي/المقاصدي للبرهنة على رعاية الشريعة لمسألة الفن والفنون الجميلة باعتبارها من المصالح الكبرى على المستوى الفردي للإنسان، وعلى المستوى الجماعي للإنسانية.
3 – استيعابُ النظرياتِ الكبرى السائدة في الحضارات الأخرى بشأن فلسفة الفن والجمال، والدخول في جدالات نظرية معها لاكتشاف ما بينها وبين النظرية الإسلامية من قواسمَ مشتركةٍ تدعو للتقارب والتعارف والتعاون، ولمعرفة ما هنالك من فواصل مميزة تختصُّ بها فنون كل حضارة أو ثقافة وتعتبر من صميم خصوصيتها وهويتها الذاتية.
وهناك ثلاث نظريات كبرى على الأقل: الأولى مستمدة من فلسفة أفلاطون، وهي تؤكدُ على أن «التقليدَ» والقدرةَ على محاكاة الطبيعة والعالم الخارجي هي السمةُ التي تميز الفن عن غيره من أعمال الإنسان. والثانية قال بها «ليو تولستوي» ومشايعوه، وهي تؤكدُ على أن السمةَ المميزة للفن هي قدرة الفنان على نقل إحساسه الداخلي إلى المخاطب بفنه،
وهذا هو المذهب التعبيري. والثالثةُ هي نظريةُ المدرسة الشكلية التي قال بها بيل كليف وأنصارُه، وهم يؤكدون على أن سمةَ الفن وخصيصته الذاتية تكمن في تقديم صورةٍ ملفتة للانتباه، وليس شرطاً أن تبدو هذه الصورة جميلةً لكل الناس، أو لعدد كبير منهم، وإنما يكفي، حسب رأيهم، أن تشدَّ انتباه شخصٍ واحد لينطبق عليها تعريف الفن، وتترك أثراً فنياً.
والسؤالُ هنا هو: ما النظريةُ الإسلامية في هذا الموضوع؟ البعضُ -ومنهم ابن سينا، وصدر الدين الشيرازي، ونصير الدين الطوسي مثلاً- يقترح أن: الفن «هو ما يقوم به الإنسان من الجمال»، وأن الجمال نسبي، ومطلق. مادي، ومعنوي. دنيوي، وأخروي. وأن منشأَ الفنون الجميلة في الرؤية الإسلامية ومبعثَ اللذة فيها هو: الأنغامُ والحركات والمشاهد الجميلة التي رآها الإنسان في الجنة وارتكزت في فطرته، ووعتها ذاكرته من أيام وجوده في عالم الذر قبل نزول آدم ڠ من الجنة. وما حدث بعد نزوله هو: أن بعضهم من ذوي الأرواح الشفافة -بفضل التزكية والتربية الحسنة- يتذكرون تلكَ الأصوات والأنغام والصور الجميلة، وهذا هو منشأُ اللذةِ، ومبعثُ الفرحِ عند رؤية تلك الجماليات أو عند التأمل في فنونها المتنوعة؛ لأنَّ الذي يدعو إلى اللذة والبهجة والسعادة والسرور؛ حتى في عالم المحسوسات؛ إنما هو تذكارٌ لتجربة اللذائذ والأفراحِ في الجنة، و«هي لذائذُ راسخة ومتجذرة في أعماق روح الإنسان إلى الأبد» بحسب تعبير نصير الدين الطوسي وتستوعب تلك الأفكارُ كثيراً من المفاهيم المقاصدية مثل: الفرح، والغم، واللذة، والألم، والحسن، والقبح. والأمر بحاجة لمزيد من الجهد والاجتهاد في كل الأحوال.
أما على مستوى التطبيق العملي فمن المهمات المطلوب إنجازُها الآتي:
1- لردم الفجوة الحاصلة في وعي الأجيال المعاصرة بشأن الفنون ووظائفها وعلاقتها بمقاصد الشريعة؛ يتعين إنشاءُ «كلية الفنون الجميلة» في كل جامعة من الجامعات «الدينية» العريقة الكبرى: جامعة الأزهر، وجامعة الزيتونة، وجامعة القرويين، وجامعة الإمام محمد بن سعود، وجامعة الإيمان، وجامعة ديوبند، والجامعة العالمية الإسلامية، وغيرها من الجامعات الإسلامية. على أن تكون هذه الكلية مختصة بدراسة نظريات الفن والفنون الجميلة، وفلسفاتها، وتاريخها، ومؤسساتها، ونماذجها التطبيقية المختلفة من منظور شرعي، وتخريج متخصصين وخبراء وفنانين مهرة، وتدريبهم على الإسهام في إبداع مختلف ألوان هذه الفنون وفقَ أرقى المعايير الأكاديمية والفنية والعملية.
2- تطويرُ منظومةٍ من المعايير القياسية تعبر عن القيم الجمالية الإسلامية، وإعدادُ نماذجَ إرشادية لكيفية الالتزام بتلك القيم. ومناقشة هذا الموضوع مع الغرف الصناعية والنقابات والاتحادات المهنية والحرفية في مختلف المجالات، ومطالبتها بأن يلتزمَ بها منتسبوها فيما ينتجونه من سلعٍ أو يقدمونه من خدمات. وتشجيع تلك الجهات على الالتزام الطوعي بالمواصفات والمعايير الفنية الإسلامية من خلال حث الجمهور على شراء منتجاتها، ومنح جوائز وأوسمة للمؤسسة الصناعية أو الحرفية أو الخدمية التي تتفوق في الالتزام بتلك المعايير…مثلاً.
3- إنشاءُ هيئةٍ للمواصفات القياسية الفنية الشرعية، أو إدراج هذه المواصفات ضمن منظومات المواصفات التي تعتمدها هيئاتُ الرقابة والمواصفات القياسية القائمة فعلاً. وتكون مهمةُ هذه الهيئة فحص المنتجات والسلع والخدمات التي يرغبُ أصحابها طواعية في إدراجها ضمن منظومة المنافسة في الالتزام بالمواصفات الفنية الشرعية الإسلامية، مع التركيز في المراحل الأولى للدعوة إلى الالتزام بتلك المعايير الجمالية والفنية على قطاعات: العمارة والبناء، وصناعة الملابس الجاهزة وبيوت الأزياء، وفنون المسرح والتمثيل والغناء.
وما تجيزه الهيئة المختصة وفق المعايير الفنية الإسلامية يصدر له «بطاقة خاصة»؛ تكون شهادة تنص على أن هذا المنتج «صنع في بلد (كذا) بمواصفات إسلامية للذوق والجمال». وسيكون اليومُ الذي تحل فيه هذه «البطاقة» محل بطاقة «صنع في الصين»، أو «صنع في فرنسا» أو «صنع في أمريكا» مثلاً، هو يوم انتصار النظرية الإسلامية في الفن والفنون الجميلة. إن علامة نضج الاجتهاد والتجديد في فقه الفنون ومقاصدها في الواقع المعاصر لمجتمعاتنا هو: أن تنجح الجهود النظرية مع المساعي التطبيقية في إنتاج خط جمالي وثقافي ووجداني رسالي؛ يكون واسع الانتشار، وتكون مرجعيته إيمانية، ورسالته إنسانية/إسلامية، أو إسلامية/إنسانية، وساعتها سيكون هذا الخط الفني والجمالي الجديد قادراً على مواجهة الخط الجمالي والثقافي والوجداني الاستبدادي، والمتحلل من تلك المعايير والمضاد لها.