عندما يقترب الإنسان من الرحيل، ويشعر بدنو أجله، يشعر برغبة فطرية فى التطهر، يتذكر مظالمه القديمة، ويحاول أن يطلب السماح
وحتى النبى المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حين شعر بدنوّ أجله، فإنه أخذ يصنع أشياء يودِّع بها الناس، وتبرأ بها ذمته. حين ثقل عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قِرَب من ماء، ثم خرج إلى الناس عاصبًا رأسَه، فدخل المسجد وصعد المنبر، ثم قال: ((أيها الناس، مَن كنتُ أخذت له مالاً فهذا مالى فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرًا فهذا ظهرى فليقتصَّ منه)).
فقام عُكَّاشَةُ بن مِحْصَن أمام الناس قائلاً: «يا رسول الله، أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتص منك، وذلك أنك يوم كنت تسوى الصفوف يوم بدر طعنتنى بعصًا كانت فى يدك فى خاصرتى وقد آلمتنى، وأنت عرضت نفسك للقصاص»، فقام على فقال: «أنا فى القصاص فداءً له»، فقال- صلى الله عليه وسلم-: ((لا يا على؛ بل يقتص منى))، فأمر بالعصا التى كانت معه فأُتِيَ بها، ورفع عكاشة العصا فى يده واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء فى المسجد، موقف من أشد المواقف على أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- حبيبهم فى مرضه الشديد، وصحابى يقتص منه أمام الناس، فلما وصل عكاشة بن محصن إلى المنبر ألقى العصا من يده، ثم ضم الجسم الشريف ومرَّغ وجهه فى بطن النبى- صلى الله عليه وسلم- وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: «جسمى لجسمك فداء!»، فضجَّ المسجد بالبكاء.
لم يكن هذا الصحابى إذاً يريد إلا أن تمس بشرته بشرة النبى المصطفى، حبا فيه، ولعلها تكون شفيعا له يوم الحساب ألا يعذب الله بشرة عانقت جلد الرسول. هذا موقف عاطفى لا شك فيه، ولكن الشاهد هنا أن الرسول كان جادا فى رغبته للتطهر قبل الرحيل.
يذكرنى هذا بموقف بعيد منذ عدد لا أحصيه من السنين. كنت فى الإسكندرية، وكان يرافقنى فى سيارة الأجرة رجل شاب شعره وأشرقت ملامحه، وتبادلنا الحديث الودود ثم فجأة وجدته يقول لى بلا مناسبة حاضرة: «عسى الله أن يسامحنى على ما كان منى من العبث وقت الشباب». وسكت وقد خنقته الدموع تأثرا.
ولعل ما نشاهده فى مرض الأحبة من الأمهات، حين تشتد مواجعهن قبيل الموت، ويتحملن فى صبر غصص الألم، ونبقى نحن- الأبناء- عاجزون عن الفهم، هؤلاء أمهاتنا الطاهرات الطيبات، اللواتى لم نرَ منهن غير الخير قط، ولا تصل آثامهن- بفرض وجودها- إلى عشر معشار ما يفعله الرجال عادة، ومع ذلك يتألمن ويتوجعن. نضرب أخماسا فى أسداس، ونتساءل عن الحكمة الإلهية غافلين عن تلك الحقيقة البسيطة أن ما يحدث لهن من ألم، إنما هو نوع من التطهر قبل لقاء الله، حتى يلاقين الخالق وما عليهن خطيئة.
…………..
على أن أصعب ما في الأمر على هؤلاء الذين يبتغون التطهر أنهم لا يستطيعون العودة إلى الماضي لاستبراء الذمة من هؤلاء الذين ظلموهم في موقف ما في مرحلة ما من مراحل العمر. يتمنى المرء يومئذ لو بدأ حياته من جديد لتجنب هذه المظالم، التي أسوأ ما فيها، أنه يتبين لك –وقت الرحيل- أنها لم تكن ضرورية، ولم تدفعك إليها إلا الحماقة وزهو النفس والجزع من فوات الرزق.
…………
الحياة رحلة قصيرة طويلة، سهلة وصعبة، غامضة ومحيرة. وأصعب ما فيها أننا نتخبط ككائنات عمياء برغم أن الله وهبنا الروح والعينين.