فى الشهر الماضى ألقى ناريندرا مودى رئيس وزراء الهند خطابا مطولا فى مناسبة وطنية، ولفت الأنظار فى هذا الخطاب كثرة إشاراته السلبية إلى إمبراطورمغولى مسلم يدعى ” أورانغزيب” كان يحكم الهند منذ 300 سنة، قال مودى ضمن ماقال : “على الرغم من أن أورانغزيب قطع العديد من الرؤوس إلا أنه لم يستطع أن يهز إيماننا، لقد حاول تغيير الحضارة بحد السيف، وحاول سحق الثقافة بالتعصب“.
وقد رصد موقع شبكة ” بى بى سى ” البريطانية إشارات مودى المتكررة لفظائع أورانغزيب خلال الشهور الماضية، وبحث وراء القصة، ونشر عنها تقريرا مفصلا، نكتشف من خلاله أن رئيس الوزراء الهندى، الهندوسى المتعصب، يتعمد هذه الإشارات السلبية إلى الإمبراطور المسلم لتبرير الجرائم التى ترتكبها حكومته ضد المسلمين حاليا فى الهند، بإذلالهم وتهجيرهم وهدم منازلهم ومساجدهم.
ومن خلال ردود الأفعال التى أوردها تقرير” بى بى سى ” يتضح أننا لانعرف حجم المحنة التى يعيشها إخواننا المسلمون فى الهند، بينما يغرد صحفى كندى أمريكى مستنكرا : ” لماذا يلقى رئيس الوزراء الهندى خطابا طويلا يهاجم فيه امبراطورا مغوليا توفى قبل 300 عام ؟ فترد عليه المؤرخة أودرى تروشكى قائلة : ” إن القوميين الهندوس يعتقدون أن المسلمين اضطهدوا الهندوس لمئات السنين، لذا فهم يستحقون أن يضطهدوا اليوم عقابا على ماحدث فى الماضى، والهندوس يستخدمون إسم أورانغزيب كضوء أخضر للإشارة إلى أنه من المقبول اضطهاد مسلمى الهند اليوم، واستخدام العنف ضدهم “.
وبسبب الإشارات المتكررة من جانب رئيس الوزراء والحملات الموجهة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى تزايدت حدة الكراهية لهذا الإمبراطور، الذى أريد له أن يكون هدفا ومبررا للطعن العلنى فى الإسلام والمسلمين، فقد وصفوه بأنه جزار وطالبوا بإزالة كل آثاره من الأماكن العامة، وتم إغلاق ضريحه فى ولاية ماهاراشترا أمام الزوار، ودعا سياسيون إلى تدمير الضريح وهدم جميع الآثار والمبانى التى بناها المغول المسلمون.
ولتوضيح أبعاد الحملة الخبيثة يقول المؤرخ الهندى الدكتور نديم رضوى : “الهندوس يستخدمون إسم أورانغزيب كتبرير لشيطنة الأقلية المسلمة التى صارت فى السنوات الأخيرة ضحية للعنف، وهذا الإمبراطور المغولى كان شخصية معقدة، ولم يكن شريرا تماما، فقد هدم بعض المعابد الهندوسية لكنه قدم أكبر عدد من المنح للحفاظ على معابد هندوسية أخرى، وكان هو نفسه يحمل دما هندوسيا لأن جده ” جلال أكبر” تزوج من طائفة الراجبوت الهندوسية المحاربة، وكان عدد من طائفة الراجبوت فى المناصب العليا خلال حكمه أكثر من أى امبراطور مغولى آخر، ومن أشد عيوبه أنه لجأ إلى الدين للتستر على إخفاقاته السياسية وتعزيز سلطته، تماما كما يفعل قادة الهند الحاليون، وحتى لو كان أورانغزيب ظلاميا وشريرا وطائفيا ودمر المعابد فهل علينا الاقتداء به اليوم ؟ لقد عاش قبل 300 سنة، لم تكن هناك ديموقراطية، ولا دستوروبرلمان وقوانين، فكيف يمكن تكرار الأعمال التى تمت فى القرنين السادس عشر والسابع عشر؟ عندما يمارس شخص ما اليوم سياسات القرن السابع عشر فإنه يرتكب جريمة أكبر بكثير من جريمة أورانغزيب“.
والواقع أن الحقد التاريخى الذى يتعامل به الهندوس مع المسلمين حاليا ليس مستغربا وليس مقصورا عليهم، فهناك كثير من الأمم وجدت فى ضعف الشعوب الإسلامية اليوم فرصة للانتقام منها، ومحاكمة دينها بأثر رجعى، وإلصاق كل نقيصة بهذا الدين العظيم الذى فتح مشارق الأرض ومغاربها، وذلك لأنهم يعرفون أن المسلمين الآن هم رجل العالم المريض، وليس بإمكانهم رد الصاع صاعين، ومن ثم فإنهم يتعاملون مع التاريخ الإسلامى بروح انتقائية ظالمة، يخفون منه ما يدينهم ويبدون ما يدين المسلمين، بل يسعون إلى تضخيمه وتعميمه، ويربطونه مباشرة بالدين.
وفى تاريخ الأمم حكام صالحون وآخرون غير ذلك، الحكام بشر منهم من يصيب ومنهم من يخطئ، والتاريخ يرصد ويفرز ويحكم على هذا وذاك، يحكم عليه بقيم زمانه، وفى سياقه التاريخى، وإذن فليس من العدل انتزاع فترة حاكم معين من سياقها وزمانها، ومحاكمة صاحبها بقيم اليوم دون مقارنته بأمثاله من حكام زمانه، وأيضا ليس من العدل محاكمة مسلمى اليوم على ماارتكب هذا الحاكم أو ذاك قديما.
ولو أن أورانغزيب هذا جزار وطائفى وظلامى كما يزعمون لما بقي من الهندوسية والهندوس شيء بعد مئات السنين من حكم الملوك المسلمين لشبه القارة الهندية، وحرصهم على التعامل بروح الإسلام السمحة مع أتباع الديانات الأخرى، ولو كانت ديانات غير سماوية، ولا يمنع هذا بالطبع وجود حكام جهلة مستبدين لايفهمون دينهم على الوجه الصحيح، لكن هؤلاء استثناء من القاعدة .
وقد لمسنا محاولات مكشوفة لتبرير الجرائم البشعة ضد المسلمين فى الهند وفلسطين والصين والبوسنة والهرسك والأقليات المسلمة فى أوروبا وأمريكا واستراليا ونيوزيلندة لأسباب تاريخية، والعجيب أن الكنيسة الغربية الكاثوليكية ـ الفاتيكان ـ برأت يهود اليوم من دم المسيح عليه السلام الذى قتله أجدادهم وصلبوه، حسب المعتقد المسيحى، لكنها لم تتسامح مع مسلمى اليوم، وما زالت تنظر إليهم كمذنبين، باعتبارهم أحفاد الفاتحين الذين نشروا الإسلام على حساب الكاثوليكية.
وفى تقديرى أن السبب الأهم للتسامح مع اليهود هو قوة يهود اليوم، وقدرتهم على التأثير فى العالم، وحين يعود المسلمون إلى قوتهم ومكانتهم فسوف ينسى الهندوس حقدهم التاريخى على أورانغزيب ويتذكرون تسامح جده الملك جلال الدين محمد أكبر وزوجته جودا أكبر، وستنسى الكنيسة الكاثوليكية حقدها التاريخى على محمد الفاتح وتتذكر مروءة صلاح الدين الأيوبى مع ملوك أوروبا المهزومين، وسينسى اليهود حقدهم التاريخى على الإسلام ونبيه، ويتذكرون عيشهم الرغيد فى كنف المسلمين قرونا طويلة.
القوة تبدل المواقف وتعدل الموازين، وتفتح صفحات من التاريخ وتغلق أخرى .