مارأيت أمة دخلت فى صراع مفتوح مع تراثها مثل أمتنا، يضيع عمرها وجهدها ومقدراتها فى حرب لا طائل منها مع هذا التراث العتيق، أمة ترفع شعار ” تجديد التراث ” وهى لاتعرف أصلا كيف تتعامل معه، وكيف تفيد منه، وبدلا من أن تشتبك مع قضايا حاضرها ومستقبلها تهرب إلى الاشتباك مع تراثها، وتطرح عليه أسئلة بلهاء تلتمس عنده الإجابة عليها، وتنفق من قدراتها العقلية فى صراعها مع التراث أكثر مما تنفق فى صراعها مع قضاياها الواقعية والمعيشية .
بالطبع أنا لا أقصد بالتراث القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهذان هما مصدر الحياة الروحية ونور الهداية الصالح لكل زمان ومكان، وإنما أقصد البناء المعرفى التراكمى الذى أبدعته عقول الأمة على مدى تاريخها الطويل، سواء فى مجال العلوم الشرعية أو العلوم الطبيعية أو الآداب والفلسفات، وهو بناء نسبي محكوم بزمانه ومكانه، ونحن أمة تمتلك تراثا ثريا بتنوعه وتعدده وامتداده فى عمق الزمان، ويجب أن نفخر بأننا أمة لها تراث، لكن المشكلة أننا نصر على أن نظل أمة تراثية، تعيش فى التراث وبالتراث .
الأمم الحية تركز اهتمامها فى صنع حاضرها والتخطيط لمستقبلها، وتنتقى من تراثها ما يحفزها، ويدفع خطوتها على طريق البناء والتنمية، وقد كنا كذلك ردحا طويلا من الدهر، لم يمثل التراث لنا مشكلة حضارية، أو عقبة فى طريق التجديد والتحديث، إلى أن داهمتنا رياح سلفية عاتية، جعلت الصدارة للتراث على حساب الواقع، وأغرقتنا فى قضايا الماضى وصراعاته على حساب قضايا الحاضر وتحدياته، ونقلت خلافات أهل العلم فى المسائل التراثية إلى الشارع ووسائل الإعلام والمنابر والمواطن العادى، الذى أريد له أن يعيش مستهلكا للأفكار التراثية بدلا من أن يتفاعل مع أفكار الحاضر ومتغيراته .
ولأن لكل فعل رد فعل، فقد هبت رياح مناوئة معاكسة، تهاجم التراث وتتنكر له، وتدعو إلى إبطال مفعوله، بل ونسفه نسفا كمن يقطع جذوره، وكان سلاحها فى ذلك أن تتلصص على التراث وتنتقى منه الغريب والشاذ والمثير لتشوهه وتسخر منه، وتدلل به على فساد هذا التراث جملة وتفصيلا .
وبدلا من أن نعيش فى حوارات بناء الحاضر أصبحنا نعيش فى حوارات حول إحياء التراث أو هدمه، نجدده أم نتركه على حاله، نتجاهله ونمضى أم نفيد منه، نأخذه كله بغثه وسمينه أم ننتقى منه، لكننا فى الإجمال صرنا أمة تراثية، أسيرة لتراثها .
وبين حين وآخر نفاجأ بتفجير قنابل صوتية من التراث يجرى إليها الناس بفضولهم الفطرى، ويتجادلون ويتناحرون حولها، ثم يتضح أنها مجرد فرقعات فى الهواء، العلم بها لاينفع والجهل بها لايضر، ومجرد ” سراب بقيعة ” لا تستحق كل هذا الاهتمام، هل يتذكر أحد إلى أى مدى شغلتنا وأخذت منا ” فرقعة ” إرضاع الكبير، وهى مسألة تراثية ليست من ثوابت العقيدة وأركان الدين ولاعلاقة لها بواقعنا ؟ وماذا أفدنا من إنكار أن سيدنا أبا بكر كان مع النبي فى غار حراء أثناء الهجرة، على نحو ماذكر المستنير أحمد عبده ماهر ؟ وماذا أفدنا من فرقعات الدكتور مبروك عطية ؟
وبالأمس ظهرت فرقعة أخرى من جانب شيخ كبير، أخبرنا أن فيل أبرهة الذى جاء لهدم الكعبة كان اسمه محمود، وأحدثت الفرقعة دويها المعهود إعلاميا، وخرج من يتندر عليها ومن يدافع عنها، ويجتهد فى إثبات أن ” محمود ” ورد فى الطبرى، ثم جاء احد أدعياء التنوير ليحدث فرقعة أعلى وأعتى، فينكر قصة الفيل تماما، ويدعى أنها من الإسرائيليات، وأن الفيل لايمكن أن يقطع المسافة فى الصحراء بين اليمن ومكة، وهو يدرى ـ أو لايدرى ـ أنه بذلك يكذب حدثا ثابتا ثبوتا راسخا لايقبل التأويل فى القرآن الكريم، أفردت له سورة كاملة، وارتبط بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ويفتح على نفسه وعلى الوطن بابا للجدال والشقاق لاطائل من ورائه .
وبعد أيام قلائل ظهرت فرقعة تراثية أخرى، من جانب شيخ كبير آخر، ادعى فيها أنه اطلع على عدة مراجع تراثية تقول إن فرعون لم يكن مصريا وإنما كان من خراسان الواقعة شرق إيران وغرب أفغانستان، واسمه مصعب بن الوليد، أو الوليد بن ريان، أو ريان بن الوليد، وعلى ذلك فإن فرعون إيرانى أو أفغانى، اختر ما شئت، وإن كنت أستبعد أن يكون استدعاء هذه الفرقعة له علاقة بالصراع الحالى مع إيران أو أفغانستان .
لكن يظل السؤال قائما : ما الفائدة التى نجنيها من تفجير هذه القنابل التراثية ” الخطيرة ” التى يظنها أصحابها فتحا عظيما وعلما نافعا، وهى فى الحقيقة علم لاينفع وجهل لايضر، ومكانها الصحيح معاهد العلم والبحث والتأريخ وليس شاشات التليفزيون التى تفتن الناس وتشغلهم عن قضاياهم الحقيقية ؟
فى المقابل هناك نموذج إيجابى للتعامل مع التراث قدمه الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حين استدعى من التراث مايساعدنا على حل مشكلة قائمة، ليثبت حق الزوجة فى نصف تركة الزوج التى ساعدت فى تكوينها معه بجهدها ومالها، وهو حق فوق حق النفقات التى كفلها الشارع الحكيم، وقد وجد الإمام الأكبر أن هذا الإبداع الفقهى ” التراثى ” يناسبنا ويساعدنا فى حل جانب من قضايانا الاجتماعية .