من يُحمِّل وزارة التربية والتعليم وحدها مسئولية ظاهرة الغش الجماعي في بعض لجان الثانوية العامة قطعا يظلمها .. فالغش ياسادة مسئولية المجتمع بأسره ، لاسيما أولياء الأمور الذين يؤمنون بمقولة الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة ” ، يريدون لأبنائهم تفوقا مزيفاً حراما ، ويسخّرون من أجل الغاية وسيلتي المال والسلاح ، ولا يدركون أنهم بذلك الفعل الفاضح يقدمون للمجتمع أبناءا “فسدة” وأعضاءا “فشلة”!
وكذلك بعض المعلمين الذين قاموا بوضع الإجابات النموذجية وتوزيعها عبر وسائل الغش الإلكتروني على الطلاب داخل اللجان أو بمعاونة المراقبين الذين يسربون أوراق الأسئلة فمن عندهم تبدأ أولى مراحل الغش !
لا شك أن كثيراً من المعلمين والمراقبين يساهمون في هذه الظاهرة التعليمية الخطيرة بشكل مباشر من خلال تقاضي رشاوى بآلاف الجنيهات من الطالب أو ولي أمره حتى يغضوا الطرف ، في نفس الوقت لا ننكر تعرض بعض المراقبين الذين يأتون من بلدان بعيدة إلى اللجان التي يشرفون فيها على الامتحانات ، للابتزاز والتهديد والعنف إذا ما فشلت معهم محاولات الترغيب والرشوة “إما ذهب المعز أو سيفه “، لهذا السبب يرفض الشرفاء منهم مراقبة امتحانات الثانوية العامة رغم حوافزها المادية.
إن ماحدث من غش جماعي تحت تهديد السلاح في بعض لجان امتحانات الثانوية العامة وظهرت تبعاته المستفزة فور إعلان النتيجة ، وهي لجان وُجدت في مناطق نائية ببعض محافظات الوجهين البحري والقبلي عقب تداول قوائم تتضمن نتيجة طلاب ينتمون لعائلات معروفة ، حصلوا على درجات تجاوزت الـ90 في المائةــ قد أثار موجة عارمة من الغضب والرفض المجتمعي ، وكانت استجابة وزارة التربية والتعليم سريعة بحجب نتائج تلك اللجان وإحالتها للتحقيق الذي ربما ينتهي بعد مثول المقال للنشر ، وإن ثبت غش جماعي ستكون القرارات قاسية ورادعة بالقانون !
في هذا السياق يؤكد البعض والعهدة على الراوي أن لجانا بعينها في محافظات بعينها تشتهر بالغش الجماعي في امتحانات الثانوية العامة ، الأمر الذي دفع بعض الأكابر من أولياء الأمور إلى تحويل أوراق أبنائهم كي يؤدوا الامتحانات هناك ، بدليل ما نشر في إحدى الصحف القومية اليومية عن تحويل أكثر من 1800 طالب إلى “لجنة دار السلام” في محافظة سوهاج بالتحديد خلال العام الدراسي الجاري ، بسبب “سمعتها في الغش الجماعي رغم قرار وزارة التربية والتعليم بعدم قبول أي تحويلات من مدارس رسمية أو خاصة إلى إدارات محددة بمحافظات كفر الشيخ وأسيوط وسوهاج وأسوان وقنا، في إطار ما وصفته بـ “ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص” بين الطلاب المتقدمين لأداء امتحان الثانوية العامة .
لقد تصور هؤلاء الآباء أن حصول أبنائهم على أعلى الدرجات ودخولهم كليات القمة بالغش نهاية المطاف ! ولم يضعوا في الحسبان صعوبة الدراسة في تلك الكليات ، فلايمكن لطالب “بليد” أو ضعيف استيعاب مناهجها أواجتياز اختباراتها بسهولة ، بدليل ما تردد عن رسوب نحو 229 طالبا في السنة الأولي بكلية الطب جامعة سوهاج هذا العام !
قد نلتمس بعض العذر للأبناء فكثيراً ما يدفعهم لذلك آباؤهم ، حتى لا يتعرضوا للإهانات والعقوبات فضلاً عن الحالة الهستيرية المصاحبة للامتحانات، والرعب من التنسيق وعبء الدروس الخصوصية ، فكلها أسباب تساهم في السعي وراء الغش في الامتحانات الذي يعد من أخطر المشاكل التي تواجه التعليم ، وله تأثير كارثي على حياة الطالب والمجتمع الذي ينتمي إليه فهو خيانة للنفس وللآخرين ، وسلوك مشين يقضي على مبدأ تكافوء الفرص ، ويهدر كد وتعب وحق الطالب المتفوق المجتهد على مدار عام كامل ، كما يخلق حالة من الاحتقان وعدم الرضا في المجتمع .
إن الطالب الغشاش شخصية غير سوية ، وغير ناضجة تتصف بالخوف، والقلق، والعجز، يعاني من ضعف التحصيل الدراسي، وصعوبات في التعلم ، وقد يلجأ للغش بعض المتفوقين الذين يريدون “زيادة الخير خيرين ” !
وحتى نكون منصفين علينا أن نعترف بوجود الغش في الامتحانات منذ عقود طويلة ، فهو ليس وليد اليوم أو الأمس ، حتى طرقه هي الأخرى تطورت بتطور العصر وسخرّت آلة التكنولوجيا لخدمته ، وإذا كان الغش في الماضي يتم بقصاصات ورق صغيرة “على طريقة برشام عادل إمام في فيلم “مرجان أحمد مرجان ” ، أو ميكروفون عبلة كامل ” في فيلم “اللمبي” فقد أصبح يتم عبر تشكيل روابط فى الفضاء الإلكترونى تتحدّى سلطة الدولة وتحاول إضعاف قدرتها على مجرد تنظيم امتحانات لعدة آلاف من الطلاب ، فانتشرت ظاهرة الصفحات الإلكترونية المخصّصة للغش، التى تحمل أسماءً مثل شاومي وبلوتو وغشاشون فدائيون و”بردو هانغش” ! ومن ثم أصبح لزاما على الدولة أن تخوض حرباً إلكترونية ممثلة في لجنة مكافحة الغش الإلكتروني بوزارة التربية والتعليم، التي زودت اللجان بكاميرات مراقبة وأمدت أفراد الأمن بعصي تكشف الأجهزة الإلكترونية التي يخفيها بعض الطلاب ، فمنهم من يقوم بتهكير التابلت وتوصيل الواي فاي بين هاتفه والتابلت، أو من يستخدم شرائح إلكترونية أخرى، مثل سماعة الأذن (Airpod)، أو الساعة الذكية !
الأمر المحزن أن أولياء الأمور الذين يساعدون أبنائهم على الغش هم في نفس الوقت يخاطرون ويغامرون بمستقبلهم، دون حساب لعواقب المشاركة في الغش، والعقوبات الصارمة التي تنتظرهم وفق القانون رقم 205 لسنة 2020 بشأن مكافحة أعمال الإخلال بالامتحانات، الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي ووافق عليه مجلس النواب، ونشر في الجريدة الرسمية، فى إطار سياسة الدولة التى تهدف لمكافحة الغش فى الامتحانات والقضاء على كل الوسائل التى تساعد عليه ، حيث يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على 7 سنوات وبغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 200 ألف جنيه كل من طبع أو نشر أو أذاع أو روج بأية وسيلة أسئلة الامتحانات أو أجوبتها أو أي نظم تقييم في مراحل التعليم المختلفة المصرية والأجنبية، بقصد الغش أو الإخلال بالنظام العام للامتحانات.
كما يعاقب على الشروع في ارتكاب أي فعل من الأفعال السابقة بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تزيد على 50 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ويحرم الطالب الذي يرتكب غشاً أو شروعاً فيه أو أي فعل من الأفعال المنصوص عليها بالفقرتين السابقتين من أداء الامتحان في الدور الذي يؤديه والدور الذي يليه من العام ذاته ويعتبر راسباً في جميع المواد، ، ويعاقب كل من حاز بلجان الامتحانات أثناء انعقادها دون مقتض أيًا من أجهزة الهواتف المحمولة أو غيرها من أجهزة الإتصال أو الإرسال أو الإستقبال السلكية أو اللاسلكية أو أيًا من أجهزة التقنية الحديثة أيًا كان نوعها من الوسائل التي تساعد على ارتكاب أي من الأفعال المنصوص عليها بالمادة الأولى من هذا القانون بغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه ولا تزيد على 10 آلاف جنيه، وتقضي المحكمة بمصادرة الأجهزة المضبوطة وفي جميع الأحوال، يحكم بمصادرة الأشياء المضبوطة محل الجريمة.
دعوني أُذكّر أن ظاهرة الغش الجماعي ليست حكراً على مصر وحدها بل هي ظاهرة عالمية اتخذت لها كثير من الدول إجراءات احترازية ، فالصين على سبيل المثال خصصت طائرة من دون طيار لرصد أى إشارات تصدر من داخل لجان الامتحان أو خارجها، بما يمكن الطلاب من الغش وفى الهند المعروفة بتطورها فى مجال التقنيات والبرمجيات انتشرت فيها صور لعشرات الأهالى يتسلقون سُور إحدى المدارس لمساعدة أبنائهم فى الامتحان، على نحو أعجز الأمن عن احتواء الموقف ، وهذا لايعني التراخي في مواجهتها ولا يُكسبها شرعية.
إنها بالفعل ظاهرة تستوجب اهتماماً على أعلى مستوى يتجاوز حدود التعامل معها كمرض، إلى النظر إليها كأحد أبرز أعراض تشوه العملية التعليمية ، ومن ثم وجبت ضرورة مراجعة مضمون المادة التعليمية ووسائل التعليم، وطرق التقويم.
يرى بعض خبراء التعليم أن الأمر يحتاج إلى جهد مؤسسي متواصل يتم فى إطار المجلس القومى للتعليم، وينفتح على مساهمات تربويين وعلماء اجتماع وسياسة، للبحث فى كيفية إعادة التعليم إلى المدرسة ، وعندما يعود التعليم سيعود الطالب، وعلى هامش هذا الهدف المحورى من المهم التفكير فى تطوير أسلوب تقييم الطلاب من الاعتماد الصرف على نتيجة الامتحان إلى تكليف الطلاب بأنشطة بحثية على مدار العام وانتداب مدرسين من خارج المدرسة، لإجراء اختبارات شفهية وتغيير شكل الامتحان النهائى نفسه باستمرار، مع تغليظ عقوبة الغش والالتزام بتطبيقها.
من جانبي أقترح حلاً أمنيا يقوم على تأمين اللجان ــ الكائنة بالمحافظات النائية والمعروف عنها الغش والتساهل ــ قوات مشتركة من الجيش والشرطة تؤمن تلك اللجان بسياج أمني يحول دون اقتراب أولياء الأمور أو أية أشخاص غرباء يمكن أن يقوموا أو يساعدوا على عملية الغش الجماعي ، كما أقترح حلاً تقنيا يقوم على قطع الإنترنت عن مناطق تلك اللجان أثناء المدة الزمنية لامتحان كل مادة فقط والاعتماد على الطريقة التقليدية بدون التابليت وبذلك نقطع على من ينجح في تهريب “محمول أو سماعة بلوتوث أو أير بود ” طريق الغش !
وفي الختام أقول إن ظاهرة الغش في الامتحانات ما هي إلا فوضى أخلاقية أصابت مجتمعنا من طلاب وأولياء أمور ومعلمين ومراقبين .. فلماذا لانمتثل إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “من غشنا فليس منا” ؟ .. وأنتم أيها الآباء المفترض فيكم أن تكونوا قدوة .. بالله عليكم كيف تشجعون أبنائكم على ارتكاب هذه الجريمة ؟!