لا شك أن عدم تحديد المشرع لفكرة معينة يعطي للإدارة إمكانية التصرف إزاءها بسلطة تقديرية قد تكون واسعة، ويتضح لنا ذلك من خلال دراسة فكرة المصلحة العامة، حيث نجد أن المشرع لم يضع للمفهوم تعريفا دقيقا يساعد على ضبط وتحديد نطاق التصرفات الإدارية، وقد يكون المشرع فعل ذلك عن قصد لكي لا يقيد تحركات الإدارة ويمنحها بالمقابل الحرية في التصرف والتعامل مع مختلف الظروف والمستجدات الطارئة خاصة إذا علمنا أن مفهوم المصلحة العامة يتسم بالنسبية والعمومية، حيث يختلف مضمونه من مجتمع لآخر ومن حقبة لأخرى.
بالمقابل نجد أن مبدأ المشروعية يفرض على الإدارة احترام قواعده، ومنها أن كل قرار إداري ملزم بالعمل على تحقيق غاية محددة والتي يجب ألا تخرج عن المصلحة العامة كهدف أسمى لكل قرار إداري، وهذا ما جعل بعض الفقه
يعتبر أن المصلحة العامة فكرة مقيدة للعمل الإداري، ولا علاقة لها بالسلطة التقديرية على اعتبار أن الإدارة لا تملك أي هامش من حرية التصرف بخصوص ركن الغاية حيث يكون الهدف واضحا من كل قرار إداري وهو تحقيق المصلحة العامة وكل خروج عنها يعد انحرافا في استعمال السلطة، ويعرض القرار للإلغاء، ويرى أنصار هذا الاتجاه الفقهي أن المصلحة العامة رغم أهميتها بالنسبة للعمل الإداري، إلا أنها ليس بإمكانها منح الإدارة الحرية في كل تصرفاتها، فنظرا لغموض الفكرة لا يمكن اعتبارها كمصدر لسلطة الإدارة التقديرية.
كما أنه حتى في حالة توافر عدة أهداف من شأنها تحقيق المصلحة العامة، فإن للإدارة حق الاختيار بين هذه الأهداف، ولكنها ليست مطلقة الحرية في هذا الاختيار، إذ يتعين عليها اختيار الهدف الأكثر تحقيقا للمصلحة العامة، وذلك بالعمل على المفاضلة والموازنة بينها لتحديد أي من الأهداف يحقق المصلحة العامة الحقيقية فعلا، وقد زكى مجلس الدولة الفرنسي هذا التوجه في إحدى قراراته
، حيث اتخذ فيه مبدأ الموازنة مفهوما جديدا بمقتضاه لم تعد الموازنة قائمة فقط بين مصلحة عامة ومصلحة خاصة، وإنما امتدت لتشمل الموازنة بين مصلحة عامة ومصلحة عامة أخرى، وسار القاضي الإداري المغربي على نفس المنوال، ونجده أحيانا يوازن بين المصالح العامة، ففي مجال نقل الموظفين من مصلحة لأخرى، ارتكز القاضي الإداري في إحدى قراراته
على فكرة التوازن بين مصلحة الإدارة ومصلحة الهيئة التي ينتمي إليها الطاعن، توصل من خلالها إلى أن قرار نقل هذا الأخير بعلة تحقيق المصلحة العامة يعد تدبيرا في غير محله وغير ملائم ما دام أن الإدارة لم تراعي مبدأ التوازن بين المصلحتين.
ويتضح مما سبق أن المصلحة العامة تشكل قيدا على حرية الإدارة في التصرف واتخاذ القرار، ذلك أن النشاط الإداري يكون ملزما بتحقيق المصلحة العامة كهدف وغاية أساسية، وإذا انحرف عن تلك الغاية صار غير مشروع، فكل عمل ابتغى غير المصلحة العامة كان ذلك سببا لعدم مشروعيته. ومعنى ذلك أن إلزام الإدارة بضرورة توافق أعمالها وتصرفاتها مع المصلحة العامة يفقدها حرية الاختيار استنادا إلى قاعدة حيث لا مصلحة لا إمكانية للتصرف، لكن ذلك القيد الذي تفرضه فكرة المصلحة العامة على تصرفات الإدارة وتحركاتها ليس بتلك الفعالية التي تخضع تصرفات الإدارة وقراراتها للاختصاص المقيد، وذلك نظرا لكونه قيدا عاما مرتبطا بفكرة غير محددة قانونيا لدرجة يصعب معها تقييد تصرفات الإدارة بشكل مطلق.
• المصلحة العامة كمصدر للسلطة التقديرية للإدارة :
إن أنصار الاتجاه الفقهي الذي يعتبر أن المصلحة العامة فكرة مقيدة للسلطة التقديرية للإدارة وينكر وجود علاقة بينهما على اعتبار أن الإدارة تكون في حالة اختصاص مقيد إزاء ركن الغاية، نجدهم لا يفرقون بين فكرة الاختصاص المقيد وبين ضرورة تقيد الإدارة بفكرة المصلحة العامة كهدف لتصرفاتها ونشاطها، في حين أن الفرق واضح بين الحالتين، ذلك أنه عند وجود غرض معين ومحدد ضمن إطار المصلحة العامة بمعناه العام، وهذه هي حالة تخصيص الأهداف، قد تكون الإدارة مقيدة في تصرفاتها إلى حد ما،
أما فيما عدا ذلك من الحالات، فإن الإدارة لن تكون ملزمة بغرض معين بذاته من أغراض المصلحة العامة، فقد تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية في اختيار غرض من عدة أغراض معينة ومحددة ضمن إطار المصلحة العامة، وقد لا يحدد للإدارة أية أغراض بصدد اختصاص ما، وفي هذه الحالة تتمتع الإدارة بحرية واسعة للاختيار بين الأغراض الممكنة شرط ألا تمارس اختصاصاتها لتحقيق أغراض بعيدة عن المصلحة العامة.
والعلاقة بين المصلحة العامة ومبدأ المشروعية وطيدة، ويتضح ذلك من خلال ربط مشروعية التصرفات والقرارات الإدارية بمدى استهدافها للمصلحة العامة، وهذا ما يضمن عدم تعسف الإدارة في استعمال سلطتها التقديرية وتفادي تحولها لسلطة مطلقة أو استبدادية، إلا أن ذلك لا يتحقق بمعزل عن تدخل فعال للقاضي الإداري نظرا لارتباط كل من المصلحة العامة وعيب الانحراف في استعمال السلطة بالسلطة التقديرية، فتحت ذريعة المصلحة العامة قد يتستر رجل الإدارة ويصدر قرارات إدارية تبدو في ظاهرها مشروعة وتخدم المصلحة العامة، وفي باطنها تخدم النوايا الذاتية والمصالح الشخصية.
والمصلحة العامة تختفي في حالات قد تعتري القرار الإداري بعض العيوب وتعرضه للإلغاء بسببها، وتكون هذه العيوب مرتبطة بما تمارسه الإدارة من سلطة تقديرية، وهذا ما يستوجب رقابة قضائية فعالة على جانب الملاءمة في التصرفات الإدارية وعدم الاقتصار على المشروعية، وذلك ما يساهم في اكتشاف النوايا الخفية للإدارة، ويتجلى دور القاضي الإداري هنا من خلال ما يمارسه من رقابة على عنصر المصلحة العامة ومدى تحققها في تصرفات الإدارة وأعمالها، وذلك بابتكاره لتقنيات جديدة تمكنه من تشديد الرقابة على مختلف جوانب السلطة التقديرية في القرار الإداري، وتتمثل هذه التقنيات في نظرية الموازنة في مجال نزع الملكية، ونظريتي الخطأ الواضح في التقدير والغلو في مجال التأديب، فهذه النظريات لا شك أنها تحد بشكل كبير من سلطة الإدارة في تقديرها للمصلحة العامة، التي تختفي في القرار الإداري في حالة عدم الموازنة بين الفوائد والأضرار الناجمة عن نزع الملكية، أو في حالة غياب التناسب بين الخطأ والعقوبة المتخذة، أو في حالة وجود خطأ واضح في التقدير أو غلو فيه، إضافة للعيب التقليدي المتمثل في الانحراف في استعمال السلطة.
وعموما، نجد أن المصلحة العامة تؤدي في الغالب وظيفتين متعارضتين، فهي من جهة تقيد سلطات الإدارة وتحد منها باعتبارها غاية يتعين على كل سلطة إدارية توخيها من وراء مختلف قراراتها وأنشطتها، ومن جهة أخرى تقوم بتوسيع تلك السلطات نظرا لعمومية الفكرة وغياب تعريف دقيق لها، فهي تشكل إطارا للعمل الإداري، وهذا الإطار يتميز بالشاسعة ما يسمح بهامش واسع للتحرك من خلاله، الشيء الذي يجعلها ميدانا خصبا للسلطة التقديرية للإدارة ومصدرا أساسيا لها، ولهذا الارتباط بين المصلحة العامة والسلطة التقديرية بعض المخاطر التي يمكن أن تفرغ الفكرتين من أهميتهما ومن مبررات وجودهما، وتتمثل تلك المخاطر بالأساس في إمكانية استغلالهما في المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، والمفاهيم الغامضة والفضفاضة من قبيل المصلحة العامة، تمكن الإدارة من تبرير أي قرار إداري ولو كان ماسا بحرية فردية ما دام أنه محقق للمصلحة العامة.
والمصلحة العامة في كل الأحوال ليست نقيضا للمصلحة الخاصة، فهذه الأخيرة لا تتحقق إلا في ظل ظروف تعرف حماية حقيقية للمصلحة العامة، والتي بغيابها يصعب على الأفراد تحقيق مصالحهم الشخصية. فتدخل الدولة أو السلطة ضروري لضمان ممارسة حقوقهم وحرياتهم في أفضل الظروف، وذلك عن طريق الحرص على المصلحة العامة بصورها المختلفة، كحماية النظام العام على سبيل المثال. فالفرد لن يكون بوسعه ضمان ممارسة حقوقه وحرياته الدستورية في ظل حالة من عدم الاستقرار وغياب الأمن والنظام، وهذا مثال فقط لتوضيح أهمية الحرص على المصلحة العامة وحمايتها دون تعسف كشرط لتحقيق المصلحة الخاصة وضمان ممارسة فعلية للحقوق والحريات الفردية.