قاعدة الجبِّ والهدم من القواعد الفقهية المستندة إلى ما رُوي عن الرَّسول الكريم (ص): “الإسلام يجبُّ ما قبله” وما روي عنه (ص): “إنَّ الإسلام يهدمُ ما قبله” واستدلَّ عليها البعض مضافًا لذلك بقوله تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾
ومفاد القاعدة: انَّ الذنوب والتجاوزات للحقوق الإلهيَّة الصادرة من الإنسان حين كفره تسقط تبعاتُها الدنيويَّة والأخرويَّة عنه بعد أن يُسلِم، فإذا كان قد زنى أو شرب الخمر حال كُفره مثلاً فإنَّه لا يُقام عليه الحدُّ بعد إسلامه كما أنّه لا يُعاقَب على ذلك يوم القيامة، وكذلك فإنَّه لا يجبُ عليه قضاء ما فاته من صلواتٍ وصيام بعد إسلامه ولا يُحاسَب عليها يوم القيامة.
فمعنى أنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله هو انَّه يقطع -عمَّن أسلم- صلته بتبعات ذنوبه وتجاوزاته التي وقعت منه في حال كُفره، فكأنَّه لم يرتكب ذنبًا، ولم يتجاوز حقًّا إلهيًّا. وهذا هو معنى الهدم المساوق لمعنى النفي وإزالة التبِعات.
وهذه القاعدة لا تشمل حقوق النَّاس، فلو كان عليه دَيْن حال كُفره فإنَّه لا يسقطُ عنه بإسلامه، وكذلك لو كان قد سرق من أحدٍ مالاً فإنَّه ملزمٌ بإرجاعه وانْ كان لا يُقام عليه حدُّ القطع، لأنَّ القطع عقوبةٌ مجعولة على السارق لذلك فهي تسقط عنه بالإسلام، وأمَّا المال المسروق فهو حقّ للمسروق منه، لذلك فهو لا يسقط بالإسلام.
أدلة القاعدة
ذكر جمع من العلماء الاستدلال له بقوله سبحانه: (قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)(1) الآية.
أما (الإسلام يجبّ ما قبله)(2) فهو حديث مشهور عن رسول الله (ص) ذكره الخاصة والعامة، وقد ظفرت بزهاء ثلاثين حديثاً يشمل ما ذكرناه، والغالب بهذا اللّفظ وفي بعضها: (هَدَم الإسلام ما كان قبله)(3) فالحديث متواتر عند العامة والخاصة وقد عملا به في مختلف الأبواب.
وقد كانت سيرة الرسول (ص) والمسلمين على ذلك، بالنسبة إلى الذين يدخلون في الإسلام وإلى اليوم، فلا كلام في السند، وإنما في الدلالة، وهي مطلقة تشمل كلّ شيء إلاّ ما علم خروجه كالعقود والايقاعات حيث إن الحديث منصرف عنها، لا لأنها ثابتة في الإسلام وفي الكفر والحديث يدل على هدم ما هو في الإسلام فقط، وإلاّ نوقض بأن كثيراً من الأشياء أيضاً ثابتة فيهما ومع ذلك هدمها الإسلام كالصلاة والصيام والحج والزكاة والديات، وغيرها كثير.
بل لما عرف من الإنصراف، فكل أثر للفعل لا يبقى بعد الإسلام وكذلك كل أثر للترك، فإذا كان قد حجّ وصاد أو أتى بسائر المحرّمات حتى في دينه ثم أسلم فلا كفّارة عليه ولا حج عليه في القابل كمن جامع في الحج حيث عليه الحج في القابل، وكذلك إذا صام في دينه وأفطر بما يوجب القضاء والكفّارة.
وهكذا لو ترك الصيام أو الصلاة أو الحج الواجب عليه في دينه، ثم أسلم فليس عليه شيء بسبب تلك التروك، مع أن المسلم لو تركها كان عليه القضاء والكفّارة.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الفعل المذكور أو الترك موجباً للأثر في الإسلام وحده أو في الكفر وحده أو فيهما معاً ـ على ما عرفت ـ لإطلاق الدليل.
أمّا المعاملات ـ أي العقود والإيقاعات ـ فلا يشملها الدليل ومنها: الديون والقروض وما أشبه، فإذا اشترى شيئاً أو باع شيئاً أو تزوّج امرأة أو طلّقها أو أعتق عبده أو استملكه أو غصب داراً أو نحوها فالحكم باق كما كان، فالمعاملة ثابتة والقروض صحيحة والمرأة زوجته والمطلّقة بائنة والعبد حرّ، وملكه للعبد باق كما كان إلاّ إذا استثنى كما إذا قال حاكم المسلمين: أن عبيدهم أحرارٌ إذا التحقوا بالمسلمين فالتحق العبد ثم أسلم سيّده فإنه لا يرجع إليه كما فعله الرسول (ص) في فتح الطائف، وكذلك حال داره وعقاره وأثاثه فهي له بعد الإسلام كما كانت له من قبل.
ولا طهارة عليه بعد الإسلام وإن كان أجنب أو حاضت حال الكفر، إذ النبي (ص) لم يأمرهم بالغسل، ولذا لم يرد في نصٍ الأمر به إطلاقاً مع كثرة الابتلاء بها (فلو كان لبان).
وكذلك المسلمون عندما كانوا يفتحون البلاد ويسلم الكفّار على أيديهم لم يكونوا يأمرونهم بذلك.
نعم في قصة إسلام بعض أهل المدينة قبل هجرة رسول الله (ص) إليها ذُكر أنه أسلم ثم قفز في بئر ليغتسل، لكن في سنده ودلالته إشكال.
وكذلك حال الطهارة الخبثية فلم يرد نص بوجوب تطهير داره وأثاثه وما يتعلّق به مع أنهم كانوا يستعملون النجاسات ولا يتورَّعون عن البول ونحوه، ولو كان لبان.
نعم إذا كانت عين النجاسة باقية كالعذرة ونحوها على بدنه أو لباسه احتاج إلى التطهير لأنه ليس من مصاديق (عمّا قبله).
وكذلك الحكم بالنسبة إلى أمواله، من المعاملات الباطلة قبل الإسلام، كثمن ما باع من الخمر والخنزير أو اُجرة الزانية أو الرشوة والقمار وبيع الصليب وآلة اللّهو، إلى غير ذلك، كلّ ذلك للإطلاق والسيرة.
النكاح السابق
أمّا نكاحه السابق فهو صحيح ولا يحتاج إلى الإعادة وإن كانت الصيغة ليست كما في الإسلام، والخارج من هذا ما لو كانت زوجاته أكثر من أربع، فهذا مقطوع به كما هو مورد النص أيضاً حيث أمر النبي (ص) بإمساك أربع وإطلاق الزائد.
والزائد الذي اُطلق إن كانت غير مدخولة، لها حق الزواج فوراً، وإن كانت مدخولة وهي مسلمة احتاج الأمر إلى انقضاء العدّة، وإن كانت غير مسلمة التزمت بدينها أو قانونها، ولو اختلف دينها مع قانونها عملت بما اعتادوا عليه من اتباع الدين أو القانون ـ كما هو الحال في الغرب الآن حيث يعملون بالقانون ـ لأن المستظهر من دليل الإلزام ذلك.
نعم إذا أرادت أن تتزوّج بالمسلم وقانونها أو دينها أصعب من حكم الإسلام كان للمسلم الزواج بها لأنّ قانون الإلزام لا يقيّد المسلم كما أنه قانونها الواقعي أيضاً حيث إن الكفار مكلّفون بالفروع.
كما أنه يخرج من ذلك: المحرّمات القطعية من البنات والأمّهات والعمّات والخالات وغيرهنّ من المحرّمات بالنسب، فإذا أسلم المجوسي أو المجوسية حصلت الفرقة بين الأب وبنته الّتي زوجته أو الولد واُخته، إلى غير ذلك، وكذلك الجمع بين الأم والبنت، والاُختين.
كما أنه لم تدل السيرة على النهي بل لعلّ السيرة بالعكس حيث لم يُعهد من المتشرّعة أن يأمروا الزوجين بالمفارقة بعد إسلامهما بسبب رضاع سابق أو وطي للأخ ونحوه.
وإذا طلَّق الكافر وتزوّجت المرأة بغيره فلا إشكال في أنها لا ترجع، فلا يقال: إنّ الإسلام يهدم الطلاق السابق حتى ينهدم النكاح المبني عليه وترجع إلى الزوج الأول، بل اللازم أن يكون كذلك ما إذا لم تتزوّج.
وإذا طلّق المجوسي الأم أو البنت وتزوّج بالأخرى ثم أسلم لم يؤمر بالمفارقة، للإطلاق.
نعم يجب مفارقة الخليل الذي يلوطه وكان بالعقد الرسمي، كما كان متعارفاً قديماً وجديداً في الغرب من تزويج الرجلين أحدهما للآخر.
وإذا طلّق الكافر ثلاث طلقات مثلاً ثم أسلم لم يحتج إلى المحلّل في رجوعه إليها بعقد جديد، بل وكذا لو طلق تسع مرّات.
والظاهر أن الجب يشمل نذوره وأيمانه وإن كانت موافقة للإسلام ودينه، فلا يلزم عليه الوفاء، أمّا إذا كان الإسلام لا يقر مثل ذلك النذر كنذر قتل ولده فلا إشكال لا من جهة الجب فقط بل من جهة أن المسلم لا يحق له أن يفعل المحرم.
الجبّ عزيمة أو رخصة؟
وهل الجب عزيمة فلا تشريع في القضاء والكفّارة وما أشبه ـ حاله حال الطفل والمجنون حيث لا تشريع لقضائهما الصلاة والصيام وما أشبه ـ أو رخصة؟