عندما نتحدث عن المصلحة العامة فإننا نكون أمام فكرة لها من الأهمية والمكانة ما يجعلها تشكل أساسا للقانون الإداري وبمثابة المفهوم الأم لهذا الأخير وفي الآن ذاته فإننا أمام فكرة تتسم بالنسبية والعمومية مما يجعل أمر تحديدها بدقة من الناحية القانونية صعبا للغاية
أولا: الحدود القانونية
عندما تقدر السلطة العامة أن حاجة بلغت من الأهمية مبلغا يقتضي تدخلها لتأمينها للأفراد تنشئ له مرفقا عاما لأجل تغطية المصلحة العامة.
فهذا التدخل إذن يدخل في اختصاص السلطة التقديرية للدولة، ويمكن أن يكون له انعكاس سلبي على حياة الأفراد؛ كالتضييق على المبادرة الخاصة أو تحديد بعض حريات العمل التجارية والصناعية وكذا العجز المالي الذي قد يحصل للمصلحة أثناء استغلالها. هذه الأهمية هي التي جعلت بعض الفقهاء الفرنسيين وعلى رأسهم Gaston Jèze يقول بأن إنشاء مصلحة عامة يجب أن يدخل في اختصاص البرلمان هو ما نستشفه من دستور 1958م لفرنسا الفصل 34؛ حيث حدد مجال القانون على سبيل الحصر، واعتبر الحكومة مشرعا عاديا على أن الأمور غير الواردة في مجال القانون تبقى من اختصاص السلطة التنظيمية. وبالنسبة للمغرب فإن الفصل 45 من الدستور الحالي حدد بدوره ووسع مجال السلطة التنظيمية بمقتضى الفصل 46، الأمر الذي ينبغي معه التصريح بأن إنشاء المصالح العامة يدخل في اختصاص السلطة التنظيمية ولا يمت للمجال القانوني بصلة.
ونورد هنا تصريح للغرفة الدستورية حيث جاء فيه:
“حيث إن مقتضيات هذه الظهائر الأربعة تقتصر على تأسيس أجهزة إدارية قصد إبداء رأيها للحكومة أو قصد تنسيق أعمال أجهزة إدارية أخرى. وحيث إنه يتجلى بعد استقرار الفصول المشار إليها أعلاه من الدستور، المحددة على سبيل الحصر لمجال القانون، إن مضمون مقتضيات الظهائر الشريفة المستفتى في شأنها لا يندرج في مجال القانون ومن تم يجب اعتباره ذا طبيعة تنظيمية”.
ثانيا: توسيع مجال المصلحة العامة.
إن حديثنا عن توسيع مجال المصلحة العامة سيكون من خلال توسيع مجال الدولة؛ نظرا للعلاقة الجدلية التي تجمع بينها، فالعوامل التي تتحكم في تدخل الدولة تختلف باختلاف المكان والزمان؛ فبعضها سياسي، اقتصادي، اجتماعي أو ثقافي، والباحث في وظائف الدولة لابد وان يراعي مجموع هذه الاعتبارات، فإذا كان للمذاهب السياسية والاقتصادية الفضل في تغيير جانب من وظائف الدولة، فإن الأحداث الاقتصادية والاجتماعية؛ خاصة الأزمة الاقتصادية والحربين العالميتين لعبت دورا حاسما في هذا التغيير بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو الدور الذي لعبته أحداث الاستعمار وموجة التحرير المتوالية في اغلب البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، وكانت كلها تنادي بوجوب تدخل الدول وجعلها المحرك الأساسي في الميدانين الصناعية والتجارية، ولما بات تدخل الدول أمرا ضروريا لتصحيح الأوضاع الاقتصادية المتردية وانتظام توازن الإنتاج وتحقيق كل ما تقتضيه تنمية المجتمع، فإن تدخل الدولة جاء تدريجيا من التوجيه إلى التدخل. فالتوجيه أو ما كان يسمى بالاقتصاد الموجه هو عملية ظرفية يمكن تطبيقها في الدول اللبرالية.
أما التدخلية فهي نظام له طابع تنظيمي يتميز بالديمومة والاستقرار ويشمل مجموعة الحياة الاجتماعية، وفيه يقع دمج السياسة بالاقتصاد، وتستطيع الدولة أن تمثل جزء أو كل وسائل الإنتاج.
إن الهيئات العامة لا تمارس أعمالها لأغراض ذاتية لحسابها؛ وإنما بقصد تحقيق هدف أساسي هو الصالح العام، ومن تم كان من عناصر شرعية الهيئات العامة أن تتجه هذه الأعمال دائما إلى تحقيق المصالح العامة وألا تنحرف عنها فإذا هي جاوزت هذا الغرض ولم يكن الباعث على تصرفاتها ابتغاء مصلحة عامة، فإنه يشوب تصرفاتها عيب الانحراف بالسلطة مما يجعلها عرضة للإلغاء.
إن مشروعية أعمال الإدارة هي حبيسة السياج الحصين والمتمثل في فكرة المصلحة العامة سواء بصورتها المطلقة أو النسبية، فالقرار الإداري الذي يتخذ لغاية أخرى غير الصالح العام يعتبر قرارا غير مشروع حتى ولو توفرت فيه سائر العناصر الأخرى ويكون لهذا السبب جدير بالإلغاء.
فالمصلحة العامة تشكل مهمة الإدارة الأساسية ولذلك كان على الإدارة عند مزاولة كافة اختصاصاتها أن تستهدف الصالح العام دون غيره، ومشروعية أعمال الإدارة تدور في فلكه وتتنوع بتنوع تقسيماته وما يطرأ عليه من تغيير وما يطرأ عليها من تغير.
وهكذا ومن خلال ما تناولناه فإن المصلحة العامة هي الركيزة الثانية للدولة بعد السلطة، ولا يمكن للدولة التخلي عنها لأنها تستمد منها شرعية وجودها، ومهما تراجع أو زاد تدخل الدولة فذلك لا يعني إلغائها أو تدخلها بشكل تام لأن التاريخ أبان عن مدى فشل الدولة في الاعتماد على أحد المفهومين، لهذا فمفهوم المصلحة العامة يأت من قبيل مفهوم الدولة.
فالمصلحة العامة بوصفها هدفا لكل قرار إداري، تتسم بطابع واقعي وموضوعي، فهي ليست فكرة مجردة، وإنما واقعية تتحقق بإشباع حاجات معينة بطريقة أوفى وأكمل على يد الإدارة، وهذا ما يستتبع النظر للفكرة باعتبارها هدفا لكل نشاط إداري، نظرة موضوعية، فلا يكفي لتحققها أن يصدر رجل الإدارة قراره عن اعتقاد كامل بأنه يخدم هذا الهدف،
وإنما العبرة في تحقيق المصلحة العامة هي صدور القرار استجابة لمتطلبات الحياة الواقعية واحتياجاتها، حيث يكفل ذلك تحقيق الغرض المحدد من القرار. وهكذا أضحت المصلحة العامة معيارا لقياس مدى مشروعية العمل الإداري، فكل ما هو منافي للمصلحة العامة يعد عملا غير مشروع، فإذا كان الخواص يتصرفون لأجل تحقيق الأهداف التي يريدونها شرط عدم التعسف في ذلك، بمعنى أن الحرية هي المبدأ، فإن الإدارة لا يمكن لها التصرف إلا لغرض مشروع، بمعنى أن الحرية هي الاستثناء
، فالمصلحة العامة تشكل أساس مبدأ المشروعية ذلك أنها ارتبطت بفكرة القانون مند نشأتها وصاحبت قيام الدولة القانونية، لذلك كانت حجر الزاوية عند أنصار نظرية العقد الاجتماعي. وبالرغم من عمومية فكرة المصلحة العامة وغموضها، فإن هذا لم يمنع الفقهاء من البحث عن تعريف لها، وهكذا نجد من يعرف المصلحة العامة على أنها المطالب والرغبات التي تستدعيها الحياة في مجتمع منظم سياسيا، وللفكرة مدلول سياسي وآخر قانوني، ففي المدلول الأول لا تختلف المصلحة العامة في طبيعتها عن المصالح الفردية أو مصالح الجماعات فهي مجرد تحكيم بين مصالح مختلفة، أما بالنسبة للمدلول القانوني، فإنه يستوجب تحديد السلطة التي تملك إجراء التحكيم بين المصالح المختلفة لتعيين وتحديد المصلحة العامة، ولأجل ذلك قد تتدخل السلطة التأسيسية لتحديد بعض الغايات العامة، وقد يترك للمشرع العادي أمر تحديد غايات معينة، كما يمكن للإدارة تحديد بعض عناصر المصلحة العامة وذلك في المجالات غير المحجوزة للمشرع.
وترتبط فكرة المصلحة العامة بشكل كبير بالسلطة العامة التي وجدت أصلا لحماية وتحقيق المصلحة العامة للمجتمع وتقديم الخدمات لأفراده، فالامتيازات التي تحضي بها تبررها وتحددها الأهداف التي تتوخاها من تصرفاتها وأنشطتها، كما أن الديمقراطية الجيدة تقتضي تغليب المصالح العامة على المصالح الفردية والخاصة، هذا بالإضافة إلى كون المصلحة العامة تشكل أساس القانون الإداري الذي يحرص على ضمان فعالية العمل الإداري موازاة مع حرصه على ضمان أكبر حماية ممكنة للمداريين في مواجهة الإدارة وقراراتها.
وهكذا تعتبر المصلحة العامة غاية وهدف كل سلطة عامة وتبرر لها ما تحضي به من امتيازات واسعة يفتقد لها الفرد في تصرفاته وأنشطته التي تهدف تحقيق مصالح خاصة، لكن هذا لا يعني أن تحقيق المصلحة العامة يبقى حكرا على السلطة العامة فقط، بل نجد أن الأفراد بدورهم يساهمون في تحقيق هذه المصلحة، وما ظهور المشروعات الخاصة ذات النفع العام إلا مثال على ذلك