يتعين علي كل من أراد العمل في القضايا المتعلقة بالقضاء الإداري سواء أكان من المحامين أو القضاة إتقان إجراءات التقاضي أمام محاكم مجلس الدولة وفي القلب منها قانون المرافعات المدنية والتجارية وما استقر في قضاء مجلس الدولة من مبادئ قانونية، و كذلك إتقان الدفوع التي يبديها أطراف الخصومة وهى من قبيل الدفاع، ولكن الدفاع وإن كان ردوداً قانونية حول ذات الأسباب القانونية والواقعية التي يستند إليها المدعى في دعواه، إلا أن الدفوع لها ذاتية مستقلة عن الدفاع، كأن يرد دعواه بأنها غير مرفوعة أمام الجهة المختصة أو غير مقبولة شكلاً أو سبق نظرها أو نحو ذلك.
ومن هنا تأتي نظرية الدفوع في القضاء الإداري خارجة عن الأصول العامة المستقرة أمام القضاء العادي في كثير من نواحيها، والمنازعات الإدارية تتعلق بالنظام العام لتعلق القانون الإداري والأوضاع التي يحكمها بالنظام العام.
الدفع بعدم الاختصاص الوظيفي أو النوعي أو الولائي:
هو دفع متعلق بالنظام العام بنص قانون المرافعات، ومع ذلك فإن الدفع بعدم اختصاص المحكمة الإدارية يكون أحياناً وظيفياً ومن النظام العام، وأحياناً لا يكون كذلك.لا مِراء في أن إشكاليّة تنازع الاختصاص بين الجهات القضائية المختصة بالفصل في النزاعات، من المسائل الشائكة والمطروحة لدى كافة الدول التي تعتمد نظام ازدواجية القضاء، ومن تلك الدول المملكة العربية السعودية؛ حيث تُنظر النزاعات فيها أمام ثلاثة جهات قضائية مختلفة ومستقلة (جهة القضاء الإداري، وجهة القضاء العام، وجهة اللجان القضائية). فقد تبنّت المملكة نظام القضاء المزدوج أو مبدأ تعدد جهات التقاضي -كما يسميه بعض فقهاء القانون- بصدور المرسوم الملكي رقم (م/٥١) وتاريخ ١٤٠٢/٧/١٧هـ (نظام ديوان المظالم القديم)، والذي جعل من ديوان المظالم جهة قضاء إداري مستقلة، ثم تلته عدة تطورات تشريعية حلّت الإشكالية المذكورة والناجمة عن تلك الازدواجية. سنعرض في هذا المقال للطرق التي انتهجتها الدول لفض التنازع في الاختصاص القضائي الولائي (الوظيفي)، وموقف التشريعات في المملكة من تلك الطرق لحل الإشكالية السالف بيانها. وقبل الخوض في ذلك سنوضّح بدايةً -وفي عجالة- المقصود بالاختصاص القضائي الولائي (الوظيفي)، وبيان مفهوم التنازع وصوره.
وحيث إن هذا النعي مردود بأن مناط تطبيق المادة 193 من قانون المرافعات هو أن تكون المحكمة قد أغفلت عن سهو أو غلط الفصل في طلب موضوعي بما يجعل الطلب باقيا معلقا أمامها. متى كان ذلك، وكان من المقرر قانونا أن مرد إغفال الفصل في طلب موضوعي مقدم إلى المحكمة هو ألا يصدر عنها قضاء في شأنه ولو كان ضمنيا، وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 15 لسنة 8 قضائية تنازع قد خلص إلى أن “مناط قبول طلب الفصل في تنازع الاختصاص السلبي وفقا للبند “ثانيا” من المادة 25 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 هو أن تطرح الدعوى عن موضوع واحد أمام جهتين من جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي، وأن تتخلى كلتاهما عن نظرها. لما كان ذلك، وكانت قواعد الاختصاص الولائي أو المتعلقة بالوظيفة هي التي تحدد جهة القضاء الواجب رفع النزاع أمامها، بينما تحدد قواعد الاختصاص النوعي كيفية توزيع الاختصاص الوظيفي بين محاكم الجهة القضائية الواحدة، وذلك بتحديد نصيب كل نوع منها في الاختصاص المنوط بالجهة التي تتبعها، فإن مقتضى ذلك ولازمة أن يكون تطبيق قواعد الاختصاص الولائي سابقا على تطبيق قواعد الاختصاص النوعي، إذ لا محل لأن تخوض المحكمة في بحث اختصاصها النوعي بنظر الدعوى ما لم يكن الفصل فيها داخلا أصلا في ولاية الجهة التي تتبعها. لما كان ذلك، وكان التخلي عن نظر دعوى الموضوع الواحد وفقا لأحكام البند “ثانيا” من المادة 25 من قانون المحكمة الدستورية العليا يفترض أن ترفع هذه الدعوى أمام محكمتين تابعتين لجهتين قضائيتين مختلفتين، وأن يكون قضاء كل منهما بعدم اختصاصها بنظرها قائما على أساس انتفاء ولاية الجهة التي تتبعها، وكان عدم الاختصاص النوعي لا يعد إنكارا لهذه الولاية باعتبار أن قواعد هذا الاختصاص هي التي تقوم بتوزيعه بين مختلف أنواع المحاكم داخل الجهة القضائية الواحدة، وكانت محكمة القضاء الإداري قد أقامت قضاءها بعدم اختصاصها نوعيا بنظر دعوى المخاصمة المرفوعة ضد المدعى عليه – وهي الدعوى رقم 5171 لسنة 40 قضائية – على أساس أن المحكمة الإدارية العليا هي التي تختص دون غيرها بالفصل في دعوى المخاصمة المقامة ضد أحد مستشاريها، وهو ما يتفق وصحيح حكم القانون، فإن التنازع المدعى به في الدعوى الماثلة لا يكون قائما بين جهتين قضائيتين في تطبيق أحكام البند “ثانيا” من المادة 25 المشار إليها.
ولا يستنهض بالتالي ولاية هذه المحكمة للفصل فيه، الأمر الذي يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى، متى كان ذلك فإن قضاء المحكمة الدستورية العليا سالف البيان يكون قد فصل فصلا قاطعا في الأساس الذي بنيت عليه دعوى التنازع رقم 15 لسنة 8 قضائية، وتضمن ردا على الدعوى برمتها مفصحا بذلك عن تخلف شروط قبول دعوى التنازع في شأن الموضوع محل الخصومة القضائية المرددة بين جهتي القضاء العادي والإداري بعد أن اتفقت كلمتهما معا على اختصاص المحكمة الإدارية العليا وظيفيا بنظر تلك الدعوى والحكم فيها، بما ينتفي معه حتما ولزوما مناط التنازع الذي يقيم ولاية هذه المحكمة، ودون أن يعتبر ذلك إنكارا لحق كل مواطن في اللجوء إلى قاضية الطبيعي على ما تقضى به المادة 68 من الدستور أو إهدارا لقواعد توزيع الاختصاص بين الهيئات المختلفة، وهي قواعد فوض الدستور المشرع في أمر تحديدها وفقا لنص المادة 167 منه.
وحيث إنه متى كانت هذه المحكمة قد استنفدت ولايتها في نظر الدعوى رقم 15 لسنة 8 قضائية تنازع بحالتها التي عرضت بها عليها، فإن ما توخاه المدعي بصفتيه من إعادة طرح ذات المنازعة عليها وبين الأخصام أنفسهم وللسبب عينه، لا يعدو أن يكون منازعة من جانبه في الدعامة القانونية التي قام عليها قضاء هذه المحكمة الدستورية العليا في الدعوى السابقة، وينحل بالتالي إلى طعن فيه بالمخالفة للمادة 48 من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 التي تنص على أن أحكامها وقراراتها نهائية وغير قابلة للطعن. ومن ثم فقد أضحى متعينا الحكم بعدم قبول الدعوى.
لعله من المعلوم أن نظرية الاختصاص القضائي واحدة من أهم النظريات تطبيقًا وأثرًا في الواقع العملي، ونعني بها مجموعة القواعد التي تخوّل كل محكمة أو جهة قضائية بنظر نزاعات معينة والفصل فيها. ولهذا الاختصاص القضائي عدة أنواع تتمثل في: الاختصاص القضائي الدولي، والاختصاص القضائي الولائي (الوظيفي)، والاختصاص القضائي النوعي، والاختصاص القضائي المكاني (الترابي/المحلّي/الإقليمي)، إلا أن ما نُسلّط الضوء عليه هنا هو الاختصاص القضائي الولائي والذي يسميه جانب من الفقهاء بـ “الوظيفي”، وأيًّا كانت التسمية فالمقصود به هو: جعل نزاعات معينة في ولاية جهة قضائية معينة دون غيرها، كولاية ديوان المظالم بالفصل في دعاوى الإلغاء، وولاية القضاء العام بالفصل في المنازعات المدنية، وولاية لجنة الفصل في المخالفات والمنازعات التمويلية بالفصل في المخالفات والمنازعات ودعاوى الحق العام والخاص الناشئة عن تطبيق أحكام نظام مراقبة شركات التمويل.
وقد نشأت لدينا إشكالية التنازع في الاختصاص القضائي كنتيجة حتمية لتعدد جهات التقاضي التي يلجأ إليها الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين للفصل في النزاعات القائمة بينهم. وللتنازعِ صورتين اثنتين، فإما أن يكون تنازعًا إيجابيًا بمعنى وجود أكثر من دعوى قضائية متحدة في الموضوع منظورة أمام جهتين قضائيتين مختلفتين أو أكثر وتتمسك كل جهة قضائية باختصاصها في نظر النزاع، وإما أن يكون تنازعًا سلبيًا بمعنى أن تتخلّى كل جهة قضائية عن نظر النزاع بحجة عدم ولايتها بنظره. وكلتا الصورتين مشاهدتان في الواقع العملي رغم تحديد اختصاصات الجهات القضائية بنصوص القانون، بيدَ أن هذا التحديد -وإن كان دقيقًا- لا يمكن أن يحسم تلك الإشكالية، وذلك بسبب نشوء واستحداث نزاعات جديدة فضلاً عن الاختلاف الوارد -بطبيعة الحال- في تفسير وشرح نصوص القانون.
وقد اعتمدت الدول التي تبنّت ازدواجية القضاء أحد الطريقتين التاليتين كحل ناجع لفضّ تنازع وتداخل الاختصاص بين الجهات القضائية المختلفة:
الطريقة الأولى: تتمثل في استحداث محكمة خارجية تختص بفض تنازع الاختصاص وتسمى بـ “محكمة تنازع الاختصاص”، فكلما نشأ تنازع في الاختصاص القضائي لجأنا إلى هذه المحكمة لتحدد لنا جهة القضاء المختصة. وقد اعتمدت هذه الطريقة عدة دول كفرنسا ومصر والمغرب العربي كله.
الطريقة الثانية: تتمثل في استحداث لجان تختص بفضّ تنازع الاختصاص، وهذه هي الطريقة التي اتخذتها التشريعات السعودية؛ إذ عهدت المملكة إلى لجان محددة مهمة فض التنازع في الاختصاص القضائي.
وأهم تلك اللجان هما:
١- لجنة الفصل في تنازع الاختصاص بالمجلس الأعلى للقضاء والوارد ذكرها في المادة (٢٧) من نظام القضاء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/٧٨) وتاريخ ١٤٢٨/٩/١٩هـ، والتي تختص بالفصل في حالة تنازع الاختصاص بين إحدى محاكم القضاء العام وإحدى محاكم ديوان المظالم، و في حالة تنازع الاختصاص بين إحدى محاكم القضاء العام ولجنة قضائية. حيث تنص المادة -سالفة الذكر- على أنه: “إذا رفعت دعوى عن موضوع واحد أمام إحدى المحاكم الخاضعة لهذا النظام وأمام إحدى محاكم ديوان المظالم أو أي جهة أخرى تختص بالفصل في بعض المنازعات ولم تتخلَّ إحداهما عن نظرها أو تخلتا كلتاهما، فيرفع طلب تعيين الجهة المختصة إلى لجنة الفصل في تنازع الاختصاص في المجلس الأعلى للقضاء، وتؤلف هذه اللجنة من ثلاثة أعضاء، عضو من المحكمة العليا يختاره رئيس المحكمة، وعضو من ديوان المظالم أو الجهة الأخرى يختاره رئيس الديوان أو رئيس الجهة – حسب الأحوال – وعضو من القضاة المتفرغين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء يختاره رئيس المجلس ويكون رئيسًا لهذه اللجنة…”، كما بيّنت المواد (٢٨ و ٢٩ و٣٠) من ذات النظام آلية تقديم طلب الفصل في التنازع، والآثار المترتبة على ذلك، وكيفية صدور قرار اللجنة.
٢- لجنة الفصل في تنازع الاختصاص بديوان المظالم، والوارد ذكرها في المادة (١٥) من نظام ديوان المظالم الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/٧٨) وتاريخ ١٤٢٨/٩/١٩هـ، والتي تؤلف من ثلاثة أعضاء: عضو من المحكمة الإدارية العليا يختاره رئيس المحكمة، وعضو من الجهة الأخرى (أي اللجنة القضائية المتنازع معها) يختاره رئيس الجهة، وعضو من مجلس القضاء الإداري يختاره رئيس المجلس ويكون رئيسًا. ولا وجود للتعارض بين نص هذه المادة وما نصت عليه المادة (٢٧) من نظام القضاء؛ لكون أن هذه اللجنة تختص بالفصل في تنازع الاختصاص بين محاكم ديوان المظالم واللجان القضائية، حيث نصت المادة (١٥) من نظام ديوان المظالم على أنه: “مع عدم الإخلال بما ورد في المادة السابعة والعشرين من نظام القضاء، إذا رفعت دعوى عن موضوع واحد أمام إحدى محاكم الديوان وأمام أي جهة أخرى، تختص بالفصل في بعض المنازعات ولم تتخلَّ إحداهما عن نظرها أو تخلتا كلتاهما؛ فيرفع طلب تعيين الجهة المختصة إلى لجنة الفصل في تنازع الاختصاص…”.
ختامًا، وبعد تبيان الإشكالية والحل المعتمد لدينا وفقًا للنصوص التشريعية المعمول بها، نود إيضاح أنه بالرغم من اعتقادنا بأن اعتماد الطريقة الأولى وذلك باستحداث محكمة مختصة بالفصل في تنازع الاختصاص -كما هو الحال في القانون المقارن- بدلاً من اللجان السالف بيانها، أجدى نفعًا؛ باعتبار أن في ذلك ضمانة للحيادية والاستقلال وانعدام الأفضلية في التصويت، إلا أننا لا ننكر بأي حالٍ من الأحوال أن مجرد تطرّق القوانين لدينا لهذه الإشكالية واعتماد حلاًّ لها، ما هو إلا دليل على القفزات والتطورات التشريعية التي شهدتها بلادنا العظيمة خلال فترة قصيرة، سائلين المولى دوام هذا التطور والازدهار التشريعي.