إن المعاناة من ويلات الحروب والغزوات وكل أوجه الاحتلال والاستعمار والاستبداد، جعلت الإنسان منذ بداية القرن الحالي يكتشف أنه هو الخاسر الأكبر في كل مرة خاض غمار الحرب وشارك في انسداد أوزارها، و سنعالج في موضوعنا هذا الطموح للسلم ومحاولات حفظه من خلال النصوص القانونية، واستجابة للتطور السياسي العالمي اتجه الأمر إلى اعتبار أن السلم يتمم حقوق الإنسان الأساسية، ويتجه الآن المجتمع للحديث عن ثقافة السلم لأنها ضمانة الفعالية الواقعية للنصوص التي تضمنه
1- تعامل الإنسان منذ وجوده على البسيطة مع القوة و العنف كوسيلة غريزية لضمان بقائه. و في المجتمعات القديمة كانت لغة السلاح هي الطريقة الأنجح لحل الخلافات حول نقاط المياه و مناطق الكلأ و حماية المصالح المختلفة. حيث أنه من الطبيعي، في مجتمع غير مركزي أن كل كائن و حسب الفطرة، يستعمل كل قواه لحماية حقوقه أو استعادتها و الحفاظ عليها.
2المعاناة من ويلات الحروب و الغزوات و كل أوجه الإحتلال و الإستعمار و الاستعباد هو ما طبع حياة الشعوب. و قد تميز كل عصر بتبريراته لاستعمال العنف و القوة، و كانت الحجج سياسية في غالبيتها، يسهر على حبكها الحكام لاستدراج الرعية.
3في الفترات الأخيرة، و خاصة منذ بداية القرن الحالي، بدأ الإنسان يكتشف أنه هو الخاسر الأكبر في كل مرة خاض فيها غمار الحرب و شارك في إسداء اوزارها. و بنمو مفاهيم المجتمع الدولي، و حقوق الأمم، و حقوق الإنسان، بدأت مفاهيم أخرى، تتقهقر فيما يخص الإنتصار في الحروب، و الإنهزام، و قضايا الغنائم و ما شابه ذلك.
4إتجه المجتمع الدولي بادئ الأمر إلى محاولة التخفيف من ويلات الحروب و تفادي الآلام التي يعانيها الإنسان من جراء إستعمال القوة 2 فتعاقبت تنظمات لاهاي بعد المؤتمر الدولي لعام 1864، و الدور الذي قام به الصليب الأحمر الدولي في مجال المعاملة الإنسانية لضحايا الحروب، ثم تحسين ظروف الأسرى و التخفيف من معاناة الجرحى، و تحديد وضع المدنيين و الغير مشاركين في المجهود الحربي، و من جهة أخرى تنظيم وسائل القتال و الحد منها إعتمادا على مبادئ القانون الدولي الإنساني.
5الجبهة الثانية التي فتحت هي الطموح إلى السلم و محاولات حفظه من خلال النصوص القانونية 3 (أولا) و إستجابة للتطور السياسي العالمي إتجه الأمر إلى إعتبار أن السلم يتمم حقوق الإنسان الأساسية (ثانيا) و يتجه الآن المجتمع للحديث عن ثقافة السلم لأنها ضمان الفعالية الواقعية للنصوص التي تضمنه (ثالثا).
6سنحاول التطرق إلى النقاط الثلاثة المبرزة من خلال تطور القانون الدولي حول الموضوع و قد نتطرق من حين لآخر للوضع على مستوى القانون الوطني و النصوص الدينية و المعطيات الثقافية الأخرى المتعلقة بالسلم.
1. حفظ السلم عن طريق النصوص القانونية
7السلم و السلام في القانون الدولي هو حالة اللاحرب و الإمتناع عن إستعمال القوة فيما بين الأمم. لبلوغ حالة دائمة و مستمرة من السلم، بالإضافة إلى محاولة القضاء على دواعي الحرب، فإن المجتمع الدولي قد شرع في سن نصوص قانونية تطمح إلى منع اللجوء إلى الحرب عن طريق نظام عصبة الأمم و ما لحقه من نصوص ما بعد الحرب العالمية الأولى (أ) ثم إستخلف بميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب الكونية الثانية (ب).
نظام العصبة في حماية الأمن و السلم في العالم
8يعتبر رجال السياسة نظام عصبة الأمم و بعده عقد باريس لعام 1928 كنقطة تحول في مجال حفظ الأمن و حماية السلم في العالم. عملية التنظيم لمواجهة الحرب، في حد ذاتها، هي من المستجدات، فلأول مرة تحاول بعض الأمم تفادي قيام حروب مستقبلية، و تقيم منظمة دولية لذلك الغرض. فشل هذا النظام لا ينقص من أهميته كمبادرة أولى لها قيمتها في التطور الفكري لإنشاء نظام قانوني لحفظ الأمن و تنسيق الجهود للعيش في حالة سلم.
9إرتكز هذا النظام على تفادي الحرب العدوانية و عدم الإعتراف بالوضعيات الناتجة عنها4.
10صك العصبة لم يحرم الحرب إلا جزئيا، و يستخلص “والدوك” إمكانية اللجوء إلى الحرب في ظل ذلك النظام في الحالات الثلاث التالية 5:
حالة فشل الدول المتنازعة الأخرى أو إفصاحها عن عدم رغبتها في تنفيذ قرار تحكيمي أو حكم قضائي دولي أو قرار صادر عن مجلس العصبة بالإجماع.
حالة فشل مجلس العصبة في الإتفاق حول قرار بالإجماع.
حالة الإدعاء بالإختصاص الوطني.
11شكلت هذه الحالات ثغرات خطيرة في نظام عصبة الأمم سمحت لبعض الأنظمة بإنتهاج سياسات عدائية و توسعية كانت نتيجتها الحرب العالمية الثانية.
6 – و يدعى كذلك Kellogg-briand pact نسبة إلى الديلوماسي الأمريكي كلوخ و الفرنسي بريان و هما موقعا الإ (…)
12لا يكتمل الحديث عن هذه الفترة دون الإشارة إلى عقد باريس لعام 1928 6. و يتكون العقد من فقرتين كما يلي :
إن الأطراف، بإسم شعوبها، تندد باللجوء إلى الحرب كوسيلة للسياسة الوطنية في علاقاتها.
تتفق الأطراف على أن كل النزاعات، فيما بينها مهما كانت طبيعتها أو أصلها، يجب أن تحل بالوسائل السلمية.
13يكتسي هذا العقد أهمية خاصة لعدة أسباب نذكر منها :
إن محتواه أكثر إتساعا من نظام العصبة في مجال تحريم الحرب، العقد يحرم كل أشكال الحرب متى كانت وسلة للسياسة الوطنية.
تشجيع الدول على محاولة حل خلافاتها عن طريق الوسائل السلمية لتفادي الحرب.
توقيع العقد خارج نظام العصبة جعله لم يندثر بزوال هذه المنظمة. بل بقي مفتوحا لتوقيع و انضمام دول أخرى، و هو ساري المفعول لحد الآن، إذ بلغ عدد الدول أطرافه في بداية السبعينات 65 دولة 7.
حفظ السلم و الأمن من خلال نصوص ميثاق الأمم المتحدة
8 – أنظر الفقرة الأولى من المادة الأولى من الميثاق.
14الهدف و المقصد الرئيسي لميثاق الأمم المتحدة هو حفظ السلم و الأمن الدولي…8″
15و لم يبخل الميثاق في سرد المبادئ الهادفة إلى تحقيق هذا المقصد الرئيسي. و نخص بالـذكر الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي تنص على أنه “يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد بإستعمال القوة أو إستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أخرى أو على أي وجه آخر لا يتفق و مقاصد الأمم المتحدة”.
9 – لتفاصيل أكثر أنظر مقالنا : حفظ السلم و المن في العالم، مرجع سابق.-ص.232.
16يلاحظ أن الميثاق، في مجال تحريم العنف في العلاقات الدولية، تفادى إستعمال تعبير “اللجوء إلى الحرب”، و ذلك نظرا للنقائص المرتبطة بتفسيره 9.
17تعبير “إستعمال القوة”، الوارد في الميثاق أشمل، حيث أنه يغطي كل حالات إستعمال القوة الموجهة ضد الاستقلال السياسي و الوحدة الترابية لدولة أخرى، و كل أعمال العدوان، و التهديد باستعمال القوة و المساس بسيادة الدولة.
10 – لتفاصيل أكثر حول الإكراء الإقتصادي أنظر مؤلفنا، فعالية المشاهدات الدولية.- ديوان المطبوعات الجامع (…)
18الرأي الرجح هو أن تعبير”… أو على أي وجه آخر لا يتفق و مبادئ الأمم المتحدة”، الوارد في نهاية الفقرة المذكورة أعلاه، يفيد تحريم الضغوط الاقتصادية و السياسية كذلك 10. هذه الضغوط قد تكون أكثر وقعاً على سيادة الدولة و إستقلالها السياسي.
11 – أنظر المادة 33 من الميثاق.
19هذا التحريم الشامل و الكامل لكل أوجه العنف و الإكراه فيما بين الدول لا يستقيم إلا إذ تم تعويضه بوسائل تسمح بحل الخلافات و النزاعات الدولية سلميا. و في هذا الشأن نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية على أنه “يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم و الأمن و العدل الدولي عرضة للخطر”. الوسائل السلمية المقصودة 11 هنا هي المفاوضة، و التحقيق و الوساطة، و التوفيق، و التحكيم، و التسوية القضائية أو الحل السلمي عن طريق المنظمات الإقليمية أو أي وسيلة سلمية أخرى تتفق عليها الأطراف.
13 – حول الاستثناءات الأخرى، أنظر مؤلفنا، مبادئ القانون الدولي العام، مرجع سابق، الجزء الثاني، ص.165.
20إلى جانب كل ذلك تم بناء نظام للأمن و السلم الجماعي عن طريق مؤسسات منظمة الأمم المتحدة و فروعها. قد يصل في النهاية إلى إستعمال القوة من طرف مجلس الأمن بشكل قمعي ضد أي دولة في ظل الفصل السابع من الميثاق 12 و هناك استثناءات أخرى تقع على مبدأ تحريم العنف تتعلق بالدفاع الشرعي الواردة في المادة 51 13. و تجدر الملاحظة إلى أن هذا النظام رغم تكامله قد تعرض لهزات مختلفة و أعطيت تفاسير مختلفة لبعض نصوصه. و بصفة خاصة تلك المتعلقة بحفظ السلم و الأمن.
21فقد شاهدنا تقاعس مجلس الأمن الذي كبله “حق الإعتراض” في فترة الصراع شرق غرب. بينما فاضت قريحته و توالت قراراته في العشرية الأخيرة من القرن الحالي، في ظل أحادية القطب و هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية و إرساء أعمدة العولمة. موضوع السلم أخذ الآن يتطور في إتجاهات أخرى.
2. السلم كحق من حقوق الإنسان
22الحرب قديما كانت تدور رحاها في ميدان القتال بين القوات المسلحة النظامية. و نمت في ظل ذلك نصوص و مبادئ مختلفة لتنظيم العمليات القتالية و وسائل الجهات المتحاربة في ذلك. التطور المذهل في وسائل الحرب و الأسلحة، سواء من ناحية القوة التدميرية، أو تقنيات إدارة العمليات، كان يظن أنه يتجه إلى حفظ المدنيين و تفادي إصابة الأفراد الغير مشاركين في المجهود الحربي، لكنه في كل من حرب الخليج و الكوسوفو تبين عكس ذلك، فالمدنيون دفعوا أغلى الأثمان.
23التطور الكبير في إمكانيات وسائل الإعلام التي أصبحت تقدم الحرب على المباشر فوق شاشات التلفزيون و على أمواج الإذاعات، غير من نظرة الرأي العام العالمي للحرب و نتائجها. حيث أصبح مطلب السلم من حق الأفراد و ليس فقط إلتزاما فيما بين الدول (أ) كما أصبحت قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة (ب) و النتيجة الثالثة هي ترتيب المسؤولية الشخصية على الأفراد في حالة خرق هذه القواعد (ج).
العيش في سلم حق من حقوق الإنسان
14 – حول أشخاص القانون الدولي، أنظر مؤلفنا، مبادئ القانون الدولي العام، الجزء الأول، ديوان المطبوعات ا (…)
24القانون الدولي العام يخاطب أشخاصه 14 التي في مقدمتها الدول، فلا يتجه الإلتزام و لا الحق مباشرة إلى الفرد بل يحتاج إلى المرور عبر المكانزمات التشريعية و التنفيذية للدولة. هذه الفكرة الكلاسيكية في تغير مستمر. فمن الواضح أن الفرد يستمد حقوقه مباشرة من القانون الدولي في مجال حقوق الإنسان 15. هذه الميزة دفعت جانبا من الفقه إلى إعتبار السلم من الجيل الثالث لحقوق الإنسان 16. و الواقع أن من بين الحقوق الأساسية للإنسان، الحق في الحياة و الحرية. و اعتبارا أن حالة الحرب أو أي شكل من أشكال العنف تهدد هذه الحقوق، فإن حالة السلم وحدها هي الكفيلة بتحقيق هذه الحقوق الأساسية على أحسن وجه. السلم في حقيقة الأمر ضرورة لتحسين كل الحقوق الواردة في اتفاقيتي حقوق الإنسان لعام 1966. سواء منها الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية أو الحقوق المدنية و السياسية.
25إذا كان حق الشعوب في تقرير مصيرها كحق جماعي قد أتجه تدريجيا، و بعد الانتهاء من عملية تصفية الاستعمار، إلى حق جماعي و فردي داخلي يتمثل في حق العيش في ظل نظام ديمقراطي تعددي. فإن الحق في السلم كحق كوني يتعلق ببقاء الشعوب إحتل مكانته كأخذ حقوق الإنسان في الدول الديمقراطية.
26و رغم أن القرار السياسي باللجوء إلى العنف و السلاح، نظرا لطبيعته، لا يمر دائما عبر كل الأجهزة المعبرة عن رأي الشعب. فإن الممارسة في مختلف الدول تتجه إلى إقناع الجماهير بإجبارية الأمر وجدواه السياسية.
27و من جهة أخرى يفترض أن الدول الديمقراطية لا تلجأ إلى النزاع المسلح إلا في حالة الدفاع الشرعي. لكن الدول القوية حاولت البحث عن شرعية قرار الحرب في كونه يواجه و يقاوم أعمال غير مشروعة في نظرها 18. هذه الأعمال كثيرا ما تهدد الأنظمة الديمقراطية. و هو الإدعاء الغالب في الحقبة الأخيرة.
28و على كل حال فإن السلم شرط أساسي للتمتع بالحقوق التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه 3 و 28 و كذا المادتين 6 و 20 من إتفاقية الحقوق المدنية و السياسية لعام 1966. و يتعلق الأمر بالحق في الأمن و الحق في الحياة 19و هذا كاف للجزم بأن الحق في السلم من حقوق الإنسان.
قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة
20 – تنص المادة 53 من إتقافية قانون المعاهدات لعام 1969 على مايلي: … في تطبيق هده الإتفافية يراد بالقا (…)
29الطبيعة الآمرة لبعض قواعد القانون 20 الدولي تجعلها في مرتبة أعلى، و تؤدي إلى إبطال كل ما يتعارض معها أو يخالفها من الاتفاقات التي تبرمها الدول و التي لا تتمتع أحكامها بنفس الطبيعة.
30ولإيضاح هذه القواعد في القانون الدولي جرت العادة على إعطاء أمثلة مختلفة تتعلق بالجرائم ضد الإنسانية التي عرفها القانون الدولي العرفي مثل تحريم القرصنة. و إبادة الجنس البشري، و العنصرية، و قواعد حماية حقوق الإنسان، و يلاحظ أن كل الأمثلة و الحالات تذكر الأحكام الخاصة بتحريم استعمال القوة و التهديد بذلك و أعمال العدوان بأنها في مقدمة القواعد الآمرة 21. و عليه فإن أحكام حفظ السلم و الآمن هي من بين هذه القواعد. خاصية الأمر و القطعية لنصوص و قواعد حماية السلم تعطي لها وزنا أكثر، و ذلك ما دفع إلى تصنيف الاعتداء عليها و عدم احترامها من بين الجرائم الدولية و ترتيب المسؤولية الشخصية على ذلك.