يأتى احتفال الأمة الإسلامية بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهى ليست فى أحسن حال، فمازالت تعانى من ميراث التخلف الحضارى، ومن التشرذم والفرقة، ومن اختلالات الهوية، ومازالت تائهة فى دروب الحياة، بعضها يستحسن السير إلى الخلف عكس حركة التاريخ، ظنا أنه بذلك يلتزم بالسنة النبوية المطهرة وبسيرة السلف الصالح، وبعضها يتنكر لتراثه ويعمل على تشويهه بكل السبل، ليجتث الأمة ـ إن استطاع ـ من جذورها، وبعضها يميل إلى اعتزال العالم واستعدائه، فيسقط فى مستنقع الكراهية والتطرف واالتكفير والعنف والإرهاب، وبعضها تأخذه رياح الغواية إلى التنصل من هويته، والتبعية الكاملة للغرب بكل مستحدثاته ومغرياته وموبقاته، فلم يعد له من ذاته إلا قشور واهية .
ومنذ زمن طويل تعيش أمتنا مخاضا عسيرا فى انتظار ميلاد جديد يبدل حالها، ويرد إليها روحها، ويجمع شملها ويوحد كلمتها، ويضعها على الصراط المستقيم، كى تتبوأ المكانة اللائقة بها بين الأمم، وهى تدرك جيدا مغزى الأية الكريمة ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “، لكن المخاض يطول، ويتخوف المشفقون من أن نصل إلى التشاؤم، ونستسلم للواقع المرير، ونفقد الأمل فى هذا الميلاد الجديد، رغم كثرة دعوات الإصلاح والتجديد التى بشرت به ومهدت له .
وفى ذكرى مولد النبي الأعظم نتطلع دوما إلى هذا الميلاد الجديد، يحدونا شوق جارف وثقة عميقة، فنحن أمة لن تموت، قد تضعف ويصيبها الوهن، وقد تخلد إلى النوم، لكنها أبدا لن تموت وتندثر، ومثلما كان مولد النبى هو الميلاد الأول لهذه الأمة المباركة، الذى انتشلها من الجاهلية والفوضى، وأخرجها من الظلمات إلى النور، فإن ذكرى المولد تحمل معها دوما بشريات الميلاد الجديد الذى ننتظره ليصنع بنا ولنا مستقبلا أفضل .
لقد ولد صلى الله عليه وسلم والعرب فى حال أسوأ من حالنا، من حيث الجهل والضعف والفقر والتشرذم وحروب القبائل، وشاء الله سبحانه وتعالى لهذا الوليد اليتيم الفقير أن يكون وحده هو المبعوث الخاص لميلاد أمة من العدم، سوف تمتد وتعلو حتى تسود العالم، وتقود مسيرة الحضارة الإنسانية لعقود طويلة .
كانت الرسالة التى حملها نبينا إلى العالمين هى رسالة التوحيد والهداية والرحمة، وقد بلغها وأداها بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وقدم بسيرته العطرة نموذج الإنسان الكامل الذى أراده الله سبحانه وتعالى لعمارة الأرض، فهو نبي الهدى الذى أرشد الناس إلى طريق الهداية والفلاح، وهو حامل لواء الحمد والثناء على الله، الذى علم الناس كيف يكون التسبيح والذكر والحمد والاستغفار والتوبة، وهو رسول الحرية والكرامة الإنسانية، الذى نهى عن العبودية لغير الله، وانتصر للمستضعفين فى الأرض، وأذل أنوف الاستكبار والمستكبرين، وانتصر للحقيقة، فأحق الحق وأزهق الباطل، وهو مدينة العلم الذى أبطل السحر والشعوذة والأنصاب والأزلام، وأعلى من قيمة العقل والبرهان، وحث على طلب العلم ولو فى الصين، وجعل طلب العلم جهادا فى سبيل الله .
وجعل صلى الله عليه وسلم الدين يسرا، بعيدا عن الكهانة والأسرار المقدسة، وأعطى للدين مفاهيم جديدة شمولية لم تكن معروفة من قبل، فالدين معاملة مثلما هو عبادات وأخلاق، والشريعة عدل بين الناس دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو الديانة، والإيمان طاقة متجددة فى النفوس، لا مجرد طقوس وشعائر تؤدى، والعقيدة قوة إيجابية قادرة على تحرير الإنسان من ضلالاته ونزواته، مثلما هى قادرة على تحرير الشعوب من الظلم والقهر والفساد والاستبداد .
ونحن اليوم فى أمس الحاجة إلى ميلاد جديد لأمة الإسلام يشبه الميلاد الأول، يعود بالأمة إلى ذاتها الأصيلة وهويتها الصافية النقية، إلى النبع المحمدى فى مجراه الأوسع، قبل أن يتشعب إلى فرق وفروع ومذاهب متناحرة، لكى يصبح الإسلام الصحيح ثقافة الجماهير، ويخرج من دائرة التقليد واحتكار الأوصياء والمتاجرين بالدين .
ميلاد جديد يوقظ الضمائر ويجدد العزائم ، ويطهر الفكر الإسلامى من عناصر التحجر والركود والجمود الفكرى التى ألصقت به عبر عصور التخلف والاستعمار، ويبعث في الأمة طاقة القدرة على الإبداع، والتفاعل مع متطلبات العصر وأدواته، لتأكيد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، ويعطى للتدين أبعادا تلائم العصر، فلا إيمان لمن لا أمان له، ولا إيمان لمن بات شبعان وجاره جائع، ولا تقوى لمن لا يتقن عمله ويتم رسالته، ويؤدى الأمانة التى فى عنقه، ومن غشنا فليس منا، ومن أخذ ما ليس من حقه فليس منا، ومن أهمل فى عمله وتكاسل وأفسد فليس من أمة المسلمين .
ميلاد جديد ينهى مرحلة التخريب والتغريب فى بنياننا الفكرى، ويركز على الإيمان الفاعل والعمل الصالح الذى ينفع الناس ويمكث فى الأرض، ولا يجعل جل همه تقصير الجلباب وقص الشارب وإطلاق اللحى، يهتم بالجوهر لا بالشكليات، ويحارب التمذهب المقيت الذى اختطف الإسلام الأصيل، وزيف مبادئه النقية، وحرف تعاليمه الصافية، فجعل منها عوامل تفسخ وانقسام وتخلف وموات، وقتل فيها روح المبادأة والمبادرة .
الميلاد الجديد يعنى أن تنهض أمتنا من رقدة العدم التى طالت، وتتجه بكل قوة إلى التجديد والتقدم دون وجل، وتعمل على ترسيخ قيم العدالة والحرية والمساواة والإيجابية والطهارة والتقوى، وتصلح دنياها بدينها .
الميلاد الجديد يعنى أن يأتى طعامنا من ضرب فأسنا، وأن لا نكون عالة على الأمم الأخرى، وأن نشارك فى منجزات الحضارة، ولا نظل مجرد مستهلكين لها، وأن نتبنى إسلاما يمشى على الأرض، ويتفاعل مع تفاصيل الحياة، ويستوعب تعدد المفاهيم والاجتهادات، ويقبل باختلاف الآراء، ويحترم الآخر ويعترف به، ويمد إليه يد التعاون لما فيه صالح البشرية جمعاء، وفيه أمنها وسلامها .