رضيع بلا مرضعة، ومرضعة بلا رضيع. هكذا كان الحال عندما انفض سوق المراضع فى مكة المكرمة فى ذلك اليوم الذى انتصب فيه ذلك السوق الشهير فى وقتها، حيث تبحث بعض الأمهات عن مرضعات لأطفالهن وتبحث بعض المرضعات عن أطفال لارضاعهم مقابل بعض الأموال. هكذا جرى العرف فى ذلك الوقت، فكان من الطبيعى أن تبحث الأمهات عن مرضعات اصحاء لضمان حصول اطفالهن على تغذية طبيعية سليمة، كما كان من الطبيعى أن تبحث كل مرضعة عن أسرة غنية لترضع طفلها ضمانا للحصول على دخل كبير مقابل هذه الرضاعة الطبيعية.
وكانت السيدة حليمة السعدية فقيرة فى كل شىء، شكلا وموضوعا حيث لا ينبأ شكلها العام بصحة قوية تصلح لإرضاع طفل وإشباعه، لدرجة أن طفلها الذى كانت تحمله معها فى رحلة البحث عن رضيع ظل يبكى طوال الطريق من شدة الجوع والعطش فلم تجد أمه فى ثديها ما يغنيه. حتى دابتها التى تمتطيها فقد كانت أيضا هزيلة فقيرة مريضة لا تجد من العشب ما يسد رمقها. فكان من الطبيعى أن تصل لسوق المراضع متأخرة جدا, بعد أن أخذت المرضعات اللاتى سبقنها اخذاتهن من أطفال الأسر الميسورة، فلم تجد سوى ذلك الرضيع اليتيم محمد بن عبدالله، الذى كانت كل الشواهد تقول بأن أمه لن تدفع أموالا مجزية مقابل رضاعته. فهو يتيم الأب، ومن غير المتوقع أن تمتلك الأم الكثير لتقدم منه لمن ترضع طفلها. ولما ما بقى من صويحبات حليمة امرأة لم تأخذ رضيعا إلا هى فقالت لزوجها بأنه تكره أن تعود خاوية الوفاض حتى لا تتعرض لسخريتهن فأقبلت على ذلك اليتيم وهى لا تدرى أن صدرها سيحتضن بعد قليل خير خلق الله كلهم.
وما أن ألقمت حليمة محمدا ثديها تحول من حال إلى حال، دبت فيه الحياة وامتلأ باللبن حتى شرب محمد وشرب أخوه حتى شبعا. حتى الدابة عادت تجرى كالرهوان حتى تعجب الجميع من أين لهذه الدابة الهزيلة لك هذه لصحة التى جعلتها فى طريق العودة تسبق الجميع؟!حتى صاح صويحبات حليمة: ويلك يا امرأة أهذه دابتك التى كنت عليها ونحن فى طريق الذهاب أم أنك قد استبدلت المريضة العليلة بتلك العفية الصحيحة القوية؟ أما ما حدث بعد ذلك فقد كان حديث الناس كلها، حيث حلت بركة الطفل الرضيع على كل من فى بيت حليمة حتى على الغنم التى كانت تعانى فيما قبل من الهزال والضعف، فإذا بها تتحول إلى القوة والسرعة لدرجة كان الناس يتناصحون فيما بينهم بأن يرعون أغنامهم فى نفس الأرض التى ترعى فيها حليمة غنمها ظنًا منهم أن البركة فى نوعية الأرض وليس فى ذلك الرضيع الذى سيغير وجه البشرية كلها. وبعد أن بلغ محمدًا سنتين عادت بها حليمة لأمه واستعطفتها لتتركه لها عاما آخر بعد البركة التى حلت عليها بسببه فوافقت آمنة ثم حدثت واقعة شق صدر الرسول الكريم وهو ما أخاف حليمة وزوجها فأعاداه لأمه.التى ذكرت لهما: ما حملت حملا قط أخف على منه، ورايت فى منامى كأنه خرج منى نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعًا ما يقعه المولود، معتمدًا على يديه، رافعًا رأسه إلى السماء.
كان الله عز وجل قادرًا أن يجعل محمدا طفلا لاسرة غنية يعيش فى كنف والديه,لكن سبحانه وتعالى لحكمته طفلاً لاسرة عادية ثم جعله يتيما حتى لا يتعلق قلبه إلا بالله عز وجل، لا يفكر إلا فيه ولا يعتمد إلا عليه ولا يلجأ إلا إليه، وتلك هى المسألة وهذا هو جوهر الدين.الذى نشهد أنك كنت خير مبلغ له يا حبيبى يارسول الله صلى الله عليك وسلم.
Hisham.moubarak.63@gmail.com