أخيرا شاء القدر لى العودة لزيارة ذلك المكان الذى أحبه من كل قلبى. تلك المدينة التى احتضنتنى طيلة أربعة سنوات كاملة حيث كانت شاهداً حياً على لحظة وضع البذرة الأولى لشجرة الصحافة التى حلمت بالعمل بها منذ الطفولة، وكان لابد لتنفيذ الحلم من بدايته. وكانت تلك البداية هنا فى سوهاج، ذلك البلد الجميل الذى قضيت به أربع سنوات هى من أحلى سنوات العمر،عندما التحقت عام ١٩٨١ بقسم الصحافة بكلية آداب سوهاج.
وها أنا أعود لنقطة البدء التى شهدت غرس البذرة ورعاياتها حتى ضربت جذورها فى هذه الأرض الطيبة التى أشهد أنى ما شعرت بين ربوعها بأى غربة. فالناس هنا فى سوهاج هم نفس الناس الذين ولدت وتربيت بينهم فى الأقصر الحبيبة.
اكتشفت درجة عقوقى وأنا أعود لزيارة سوهاج بعد أن غادرتها عام ١٩٨٥، أى انشغال هذا الذى يمنعنى من بر هذه المدينة طيلة ٣٧ عاما مرت على التخرج في الكلية، ألا تستحق تلك المدينة التى كانت بمثابة حضن الأم أن أزورها ولو مرة كل عام، كيف استطاع قلبى القاسى أن يمر فى كل رحلة من القاهرة إلى الأقصر والعكس كل هذه السنين التى مرت، دون أن يتوقف ولو للحظات ليتجول فى تلك الشوارع التى طالما قادتنى إليها قدماى عندما كنت أشتاق لرائحة أمى وأبى ولشوارع وأزقة الأقصر؟
وإذا كانت قلوب البشر تشعر بالأماكن التى طالما نبضت فيها، فيبدو أن قلوب الأماكن تبادل قلوب البشر نفس المشاعر والأحاسيس. نعم لقد تغيرت سوهاج تغييرا جذرياً وكذلك تغيرت أنا، زاد عمرها سبع وثلاثين عاما وكذلك زاد عمرى. عرف الزحام والدوشة طريقهما لشوارع المدينة الهادئة، وكذلك ازدحم قلبى وعرفت الدوشة طريقها إليه. زحف الشيب على رأس تلك المدينة التى تركتها فتية، وكذلك اشتعل الرأس شيباً وبلغت من الكبر عتيا. قابلتنى سوهاج هجراً بهجر وتبدلت وكأنها لم تعد هى التى كانت.
سويعات قليلة قضيتها فى سوهاج اكتشفت خلالها حجم التغير الهائل الذى أصاب كل الأماكن التى كنت أحفظها عن ظهر قلب. الساحة الفسيحة التى كانت تستقبلنى أمام محطة السكك الحديدية صارت مجرد ممر ضيق يكتظ بكل أنواع السيارات من الجانبين.عبرت كوبرى اخميم الذى يربط غرب سوهاج بشرقها فإذا به يعانى كل مظاهر الإهمال التى أكثرها فداحة هو حجب مياه النيل عن ناظرى العابرين للكوبرى.المناطق الخضراء فى مدينة ناصر التى كانت تحيط بالجامعة والمدينة الجامعية تحولت لكتل من الأسمنت الصماء.الشوارع والحوارى وحتى الأزقة التى كنت يوما ما عرابها وشيخ حارتها صارت غريبة عنى لا أعرف لها بداية ولا نهاية،كنت اعرف دروبها بقلبى فعجز أذكى اختراع جى بى اس فى العالم عن أن يرينى أين السبيل ومن أين أبدأ ومتى انتهى. لا خير فى تطوير يمحو عبق الماضى ويزيل تاريخه،وتبا لأى تجديد يعتقد أن التخلص من المعالم والملامح القديمة هو أول خطوات التقدم للأمام. أوروبا بجلالة قدرها لم تتخلص من القديم ولا تزال تحتفظ بأحياء كاملة بل ومدن كبيرة على حالها لم تشوهها يد التجميل المزعومة.
نعم تغيرت سوهاج كثيرا، بل تبدلت وانقلب حالها رأساً على عقب إن شئت الدقة. لم يبق من ماضيها حتى الآن سوى رائحة الهواء على كورنيش نيلها. ومع ذلك لم تتغير مشاعرى تجاهها. إنه ما يسمونه الحب، لذا أقول لها: عاقبينى على عقوقى كما شئت، عاتبينى ولومينى واهجرينى كيف شئت، لكنى مع كل ذلك سأظل ما حييت احبك !
hisham.moubarak.63@gmail.com