هل تذكرون الهجمة الشرسة التى تعرض لها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بسبب صورة نشرت له فى طائرة العودة من رحلة علاج بألمانيا وبجواره كتاب عنوانه ” أفول الغرب ” ؟! هل تذكرون عبارات التهكم التى أطلقها المدعو خالد منتصر وجرأته على شيخ الأزهر، حيث قال ” الكتاب الذى يقرأه فضيلة الإمام فى الطائرة الأمريكية عنوانه ” أفول الغرب “، أليس هو الغرب الكافر الذى لو أفل وغابت شمس حضارته لن نجد قرص دواء، ولا طائرة نعود بها من هناك “، ثم أضاف في تغريدة أخرى : ” لسنا من السذاجة بألا نربط أفول الغرب بتصريحات سابقة مهاجمة للغرب، ونمط دراسة إقصائي يتحدث عن آخر كافر “.
وبصرف النظرعن هذا التعريض السخيف الذى يأتى فى سياق حملة افتراءات ومزايدات يشنها العلمانيون الجدد ضد الأزهر وشيخه، بمناسبة وبدون مناسبة، فإن الدكتور الطيب المشهود له بالنزاهة والاستقامة ليست له تصريحات سابقة أو لاحقة تتحدث عن آخر كافر، ولم يكن يقرأ فى كتاب تكفيرى تسطيحى، إنما هو كتاب رصين يحمل رؤية علمية نقدية، تتناول جوانب سلبية في الحضارة الغربية، وتأثيرها المباشر على عالمنا العربى، وهى رؤية متعددة الزوايا، تحدث بها وكتب فيها كتاب ومثقفون غربيون من باب النقد الذاتي لما آلت إليه حضارتهم المأزومة .
وما كتبه المفكر المغربى حسن أوريد فى ” أفول الغرب “عام 2018 قد عبر عنه الكاتب الأمريكى باتريك جيه بوكانان فى كتابه ” موت الغرب “عام 2005، حيث بشر بموت الغرب وانتهائه، وساق لذلك أسبابا عديدة منها : السقوط الأخلاقى الذى ألغى القيم التربوية والأسرية والأخلاقية، واضمحلال القوى البشرية والنقص السكانى بالموت الطبيعى وقلة المواليد والانتحار وإدمان المخدرات، ومن ثم اضطرار الغرب إلى استقدام مزيد من المهاجرين الشبان، والحل الذى يطرحه بوكانان لهذه المعضلة هو ثورة حضارية مضادة، تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلى مكانتها، وترد الاعتبار لمفهوم الأسرة ومؤسسة الزواج والإنجاب .
يقول بوكانان إن الموت الأخلاقي الذي جرته الثقافة الغربية على الغربيين هو الذي صنع موتهم البيولوجى، فانحسار الأعراف الأخلاقية والدينية التي كانت تشكل سدا في وجه الإجهاض والعلاقات الجنسية المنحرفة، وتشجيع العلاقات الشاذة بين أبناء الجنس الواحد، كل هذا دمر الخلية المركزية للمجتمع وأساس استمراره ( الأسرة )، أضف إلى ذلك تناقص أعداد الشبان والشابات الراغبين في الزواج والإنجاب فى مجتمع يسمح بالحرية الجنسية الكاملة دون رابط شرعي أو قانوني .
ويخلص المؤلف إلى القول بأن هذا مجتمع منحط وحضارة تحتضر وتموت، وإن بلدا فيه كل هذه الموبقات لايمكن أن يكون حرا، فلا وجود للحرية دون فضيلة، ولاوجود للفضيلة بغياب الإيمان، فإن الدين والتدين ليسا رفاهية، وليسا من الكماليات .
إذن فموضوع ” أفول الغرب ” أو ” موت الغرب ” قضية حضارية ووجودية، من الطبيعى أن تشغل بال المفكرين الجادين، والمثقفين المستنيرين بحق، ومن الطبيعى أن يقرأ فيها شيخ الأزهر، خصوصا أن هذه القضية سيكون لها تأثير وانعكاس مباشر على أوطاننا، وهو ما يجهله أدعياء الثقافة والفكر والاستنارة، الذين لايشغلهم إلا التربص بالكبار، وإسقاط تصوراتهم الهشة وأفكارهم الرجعية التلفيقية على مخالفيهم .
والمؤلف المغربى حسن أوريد ـ المولود عام 1962 ـ صاحب كتاب ” أفول الغرب ” ليس تكفيريا ولا داعشيا، وإنما هو كاتب وسياسى مرموق له 18 كتابا، ويحمل درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية، وكان متحدثا رسميا باسم القصر الملكى فى المغرب، وكتابه يتناول المأزق الذى انتهت إليه الحضارة الغربية، وتأثير هذا المأزق علينا، باعتبار أننا ارتبطنا بهذه الحضارة ردحا طويلا من الزمن فى فترة التوسع الاستعمارى، وحتى بعد مرحلة الاستعمار ظلت النخب العربية مرتبطة بالغرب اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وبالتالي فإن الأزمات المستعرة فى عالمنا العربى ليست إلا انعكاسا لأزمة الحضارة الغربية الآفلة، التى قامت على تقدبس العقل وتأليه العلم وعبادة المادة ونسبية الأخلاق وإطلاق السعار الجنسى وإباحة الشهوات .
ويشير الكاتب إلى بعض المحطات التاريخية التي عكست انحسار القوة الرائدة للغرب في النظام العالمي بعد الحرب الباردة، ومن بينها الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، واحتلال روسيا لجزيرة القرم والصراع مع أوكرانيا، وعودة روسيا ” القوية ” للشرق الأوسط عبر سوريا، وفق قناعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالثأر من الغرب لما تعرضت له بلاده من إهانة على الساحة الدولية طوال العقود السابقة، وهذه إرهاصات لعالم جديد تعود فيه الحرب الباردة دون أيديولوجيا ودون سباق تسلح، ما يعنى أن الغرب لن يقود العالم مجدداً، ولن تكون له السيادة المطلقة، وهذا التحول ـ من وجهة نظر الكاتب ـ ليس بالضرورة خبراً جيداً بالنسبة للعرب، فهو يطرح سيناريوهات خطيرة على عالمهم الذي قد يشهد تحولات عميقة غير مسبوقة، ظهرت أعراضها في دول فاشلة أو عاجزة أو حروب أهلية من شأنها أن تستفحل وتتوسع .
ويحذر الكاتب من أن الدول العربية المرتبطة بالغرب تاريخياً وثقافياً ووجدانياً ربما تكون ساحة لاضطرابات عنيفة يمكن أن تمتد لعقود، ففي الوقت الذي يمر فيه الغرب بـأزمة وجودية سيتأثر بها العالم، ستكون دول العالم العربي هي المتأثر الأكبر بحكم الجوار الجغرافي والإرث التاريخي والتداخل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية، ما لم يستوعب المثقف العربى التحول الجاري في العالم، ويتعامل معه بوعى شديد .
وعلى هذا الأساس يبنى الكاتب توقعاته بمستقبل مظلم للعالم العربى مادامت أبعاد أزمة الغرب مستمرة، واستمرت معها سلبية النخب القيادية وعجزها عن بلورة خيارات مستقلة، ومشروعات للنهضة تعتمد على تفجير القوى الكامنة فى الذات العربية الحضارية .