الليلة ينتهى مونديال قطر، سيتوج الفائزون وينفض السامر، ولكن لا أظن أن هذا العرس الدولى سيذهب بسرعة من ذاكرة الذين شاركوا فيه، أو الذين تابعوه عبر الشاشات، فقد كان مونديال 2022 حالة خاصة ومميزة، كما أن الجدل الذى دار حوله لعب دورا مهما فى إثارة الشغف بالمنطقة التى احتضنته.
أما بالنسبة لنا نحن العرب فقد أوجد المونديال لحظة شعبية عربية رائعة، أيقظت فينا الروح القومية، وأحيت فينا معنى الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، مهما اختلفنا وتباعدنا يظل فى داخلنا يقين بأننا أمة واحدة، يشد بعضها بعضا، وهذه الروح يجب توظيفها والبناء عليها لما فيه خير العرب جميعا .
كان المونديال فرصة لبلورة صورة الأمة العربية أمام العالم، فرأى شعوبنا تقف وراء كل منتخب عربى فى المباريات، ابتداء بقطر والسعوية وانتهاء بتونس والمغرب، فى مظاهرة عربية غير مسبوقة، حتى كتبت بعض الصحف الأجنبية عقب فوز المغرب على إسبانيا إنه ” فوز أمة وليس فوز فريق “.
وكان المونديال فرصة ليعرف العالم أن العرب ليسوا إرهابيين، ولا متخلفين عن العصر، ولا منعزلين عن الحضارة يركبون الجمال فى هجير الصحراء، وليسوا مجرد أثرياء نفط، يعيشون حياتهم للخمر والليل والنساء، كما تقول لهم أبواق الدعاية السوداء .
والرسالة الأهم التى سيحملها المشجعون إلى أهلهم أن هؤلاء العرب لهم ثقافة مختلفة، ونمط للحياة مختلف عن الحياة الغربية، ولهم هوية من حقهم أن يحافظوا عليها، ومن واجب العالم أن يحترم قوانينهم وخصوصيتهم، فليس كل ماهو مختلف عن الغرب سيء، وليس كل من يرفض الخمور والشذوذ وإباحة الجنس متخلف رجعى .
ومن باب التعارف بين الشعوب كان انبهارنا بحرص المشجعين اليابانيين على تنظيف الملاعب قبل مغادرتهم، وكان انبهار الأجانب بحرص اللاعبين المغاربة على السجود لله شكرا بعد الفوز، واصطحاب أمهاتهم وتكريمهن واسترضائهن، وقد اهتمت صحيفة ” لو أوبزيرفاتير ” الفرنسية بإبراز قيم الأسرة العربية التى عبر عنها اللاعبون المغاربة بعد كل فوز، عندما يبحثون عن والديهم لتقبيلهم وإالفوز بدعائهم بدلا من وجود صديقات وخليلات معهم .
ونشرت صحف الغرب صورا للصلاة الجامعة فى أرض الملعب، وتحدثت عن صوت الأذان الجميل، وقد يكون لهذا الإطراء علاقة بموافقة بلدية مدينة ” مينا بولس ” الأمريكية على رفع الأذان بمساجدها فى أوقات الصلاة، ماعدا الفجر، وهو الأمر الذى اعتبر فتحا عظيما للمسلمين هناك.
وفى المونديال ارتفع العلم الفلسطينى أكثر من مرة ليعرف العالم أجمع أن قضية الشعب الفلسطيى حية، وأن هذا الشعب البطل له حقوق مشروعة، وفى مقدمتها حقه فى إقامة دولته على أرضه وعاصمتها القدس، وفى المقابل عرف الإسرائيليون مدى العزلة التى تفرضها عليهم الشعوب العربية رغم اتفاقات التطبيع الرسمية.
لقدعشنا لحظات الفرح والفخر بفوز المنتخب المغربى الشقيق فى عدة مستويات، لكن البعض أخذته الحمية إلى الوقوع فى مبالغات غير موضوعية، فصوروا الفوز على البرتغال وأسبانيا كأن المغرب تعيد ذكريات فتح شبه جزيرة أيبيريا ومجد الأندلس، وشبهوا اللاعبين بالفاتحين التاريخيين، كطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين .
وفى تقديرى أن هذه المبالغات كانت خلطا للأوراق وتسطيحا للوعى، فالكرة فوز وخسارة، وليست انتصارات وفتوحات، والثأر التاريخى من الدول التى احتلت بلادنا لن يكون فى الملعب، وإنما فى المعاهد والمعامل والمصانع والمزارع، وقد أثبتت تجارب المونديال أن العقل العربى قادرعلى خوض السباق الحضارى أمام الكبار والفوز فيه، بمؤهلاته وكفاءاته، فقد حقق فريق المغرب صعوده بأبنائه المغاربة، وبمدرب وطنى، ولو أعطى العرب اهتماما لأمورهم الأخرى بنفس الجدية التى يعطونها للشأن الكروى لأصبحت بلادنا جنة الله على الأرض.