شاءَ دَور برد سخيف أن يحرمنى من حضور ذكرَى الكاتب الكبير وحيد حامد مع أصدقائه ومُحبيه ومُريديه، فى المكان الذى كان يفضله على كورنيش النيل، يكتب فيه سيناريوهات أفلامه أو قصصه القصيرة أو مقالاته، ويلتقى بالناس.
تعرفتُ على وحيد حامد أول مرّة فى سنة 1977، لم نلتقِ وجهًا لوجه، وكان لقاؤنا على شاشة السينما فى فيلم (طائر الليل الحزين)، اسم مختلف أقرب إلى عنوان رواية، عن شاب عازف درامز فى مواجهة سُلطة شبه مطلقة يتمتع بها واحدٌ من أصحاب مراكز القوَى، لا يَهمّها أن يُعدَم فى جريمة لم يرتكبها؛ للحفاظ على مكانته فى المجتمع، ويناصر الشاب رجُل قضاء لا يخشى فى الحق أى سُلطة ويتمسك بالقانون.
وتعلقتُ به مع مسلسل (أحلام الفتى الطائر)، الأدب لا يزال مُسيطرًا على تفكيره وعناوين أعماله، وهو مسلسل أضاف لعادل أمام الكثير، ورفع من شعبيته درجات لا أتصوّر أن عملاً فنيًا قبله صَنع له هذا القدر من النجاح؛ خصوصًا مع مُخرج فاهم وحساس ومُبدع هو الأستاذ محمد فاضل.
كنتُ معجبًا دون وَلع، إلى أن رأيتُ (الغول) فى عام 1983، صحفى شريف فى مواجهة سُلطة رجُل أعمال فاسد صاحب نفوذ، وحين يخسر قضيته يحقق العدل بيديه، ثم (الهلفوت) بعدها بعام، إنسان تافه هلفوت مُسخَة فى قريته فى مواجهة سُلطة بلطجى جبار، وحين يكتشف خواء الجبار وهشاشته، وأن جبروته الذى يتسع يومًا بعد يوم يستمده من خوف الناس والسكوت عليه وخضوعهم له؛ فيقرّر مواجهته ويتمكن من قتله، ويحل مَحله.
وفعلاً علاقة المصريين بالسُّلطة علاقة معقدة جدًا، خليط من الكراهية والحُب، التمرُّد والطاعة، التبجيل والسخرية، الخوف والضرورة!
والأستاذ «وحيد» مثل أغلب المصريين وُلد وعاش حياته الأولى فى الريف، كان وهو يلعب مع الصغار فى قريته بنى قريش، مركز منيا القمح، الشرقية، يخوّفونهم: «اسكتوا ولَّا نجيب لكم العسكرى»، «بلاش عفرته ولَّا ننده على العسكرى»، وهذه العبارات كانت شائعة، أداة تخويف الصغار فى الأرياف، فالعسكرى صاحب سُلطة، ورأى «وحيد» القرية كلها تهتز وتقف على رِجْل ونصف؛ كلما نزلها ضابط النقطة، ثم حفر مشهد غريب خطوطا حادة لم تمحُ من مخيلته أبدًا، فلاح أجير عند رجُل مقتدر، وهو يمسك فى خناق هذا الضابط ويضربه بسعف النخيل ويرفعه من على الحصان؛ يأسًا من بطشه وظلمه وقسوته، وأدرك وقتها أن السُّلطة دومًا ضد الضعفاء، ومع أصحاب المال، وحين كبر وتخرَّج فى الجامعة وعمل بالكتابة كان عليه أن يختار بين طريقين؛ حضن السُّلطة، أو ضد أفعالها إذا حادت عن الحق والقانون، فاختار الطريق الثانى.
ومواجهة السُّلطة ليست عملاً طيبًا ورائعًا فى حد ذاتها، فالإنسان لا يستطيع أن ينظم حياته مع الجماعة دون سُلطة تجبره على الالتزام بنظام ما يضبط نشاط هذه الجماعة وعلاقات أفرادها وفْقَ معايير وقواعد وقوانين متفق عليها، وإبليس هو أول من أسّس فكرة التمرد على السُّلطة والوقوف أمامها، وأول مَن تحمَّل تبعات الخروج على الناموس أو النظام.
ولهذا اختار وحيد حامد لأبطالة مواجهة السُّلطة الغاشمة الباطشة بكل أشكالها والتى لا تكترث بقيمة الإنسان أو حياته!
وأجمَل ما فعله أن أبطاله بَشرٌ عاديون، من هؤلاء الذين يتحركون ويتزوجون ويصاحبون ويعملون ويعمرون دون صخب أو ضجيج، لا نلاحظهم لو التقيناهم فى مقهَى أو أوتوبيس أو على محطة مترو أو فى دار سينما أو قطار مكدّس أو سوق شعبية، أبطال لا علاقة لهم بالسياسة ولا يهتمون بها، ولا يعنيهم أن يكونوا أنصارًا أو مُعارضين، هم مشغولون بالجرى وراء لقمة العيش والمشى جنب الحائط وربما داخله، وفجأة يجدون سُلطة ما أمامهم توجِّه قبضتها إلى وجوههم: سُلطة أصحاب نفوذ، سُلطة مال متوحش، سُلطة قيم فاسدة.. إلخ.
وقطعًا.. كان فيلم (البرىء) مَرحلة فاصلة فى فن وحيد حامد، اكتملت فيه رؤيته عن علاقة المواطن بالسُّلطة، فلاح بسيط خادم للسُّلطة، مطيع لأوامرها طاعة عمياء إلى حد المبالغة باعتباره جُنديًا، وفجأة فرض عليه اختيارٌ إنسانىٌ فى غاية التعقيد، تنفيذَ الأوامر بضرب وإهانة مُعارض سياسى، وصَفوه بأنه من أعداء الوطن، وحين يبدأ فى التنفيذ فإذا بالضحية صديق طفولته الذى يعرفه عز المعرفة وأفضاله تغطيه، فيَكفّ يدَه عنه، ويحاول إقناع كباره بأنه: «حسين أفندى ابن الحاج وهدان من كبار بلدنا وصديق عمرى، لا يمكن أن يكون- يا أفندم- من أعداء الوطن»!
ويجد نفسَه فى مواجهة سُلطة خالفَ أوامرها.
قد لا يعرف كثيرون أن وحيد حامد استوحى هذه الفكرة من واقعة حقيقية حدثت معه، كان فى شارع الألفى بوسط القاهرة، وقت مظاهرات الخبز 1977، هيصة وهتافات وحماس شباب، فإذا بعسكرى نازل على ظهره بهراوة ثقيلة، فالتفت إليه، تجمّد العسكرى فى مكانه، وسأله: «هو أنت يا أستاذ وحيد من أعداء الوطن؟».
من هذه الجملة جاءته فكرة (البرىء) كاملة.. أحمد سبع الليل مصرى قروى فى غاية السذاجة والبساطة، تلعب به السُّلطة الرسمية وتُحَوّله إلى أداة طيعة للقتل والتعذيب ضد الآخر الذى يعارض سياسات هذه السُّلطة وأفكارها، وكما فى الأساطير، يسقط هذا الساذج فى جُبّ المواجهة مع عماليق وكائنات خرافية متمثلة فى سُلطة مطلقة.
إذن نحن أمام كاتب لا يكتب سيناريوهاته من أجل تسلية الجمهور فقط؛ وإنما يحاول أن يدفعه ليفكر فى أحواله وأحلامه ومخاوفه، وبالطبع الفن قرين المتعة، فإذا كانت مُغلفة بالفكر، ويحث متلقيه على التأمل والمراجعة، فهو أشبه بكتاب فلسفة عميق مبسط فى لوحات فنية.
ولم يكن أحمد سبع الليل البطل الوحيد المستوحى من الواقع، فأيضًا «أحمد» في “الإرهاب والكباب” المواطن العادى على باب الله، كل ما يريده خدمة من خدمات السُّلطات الرسمية، وهى نقل ابنه من مَدرسة إلى مَدرسة أخرى، ولكن دون إرادته يجرجره فساد السُّلطة الإدارية إلى ساحة صراع مع الدولة ذاتها بكل ما تملكه من إمكانات مهولة، فيتحول فى عُرف القانون إلى إرهابى، وفعلاً «أحمد» شخصية حقيقية التقاه وحيد حامد فى مجمع التحرير ومات قبل أن ينقل ابنه من المَدرسة.
وأيضًا أمانى فى فيلم (احكى يا شهرزاد) والتى لعبت دورها الرائعة سوسن بدر، عرفها معرفة شخصية، جمال وثقافة وثقة، ست الحُسن التى تبحث عن الشاطر حسن فلم تعثر عليه، فتَعَنَّست، وبعدها تَدَافَع عليها الرجال طالبين يدها طمعًا فى شقتها أو مرتبها أو عربتها، متخيلين أن حاجتها لرجُل سوف تدفعها إلى التنازلات، والحوار الساخن بينها وبين رجُل تقدم لزواجها حول شقتها وعربتها مقابل العلاقة الخاصة حدث فعلاً وليس تخيلاً.
أمّا المقدم سعيد أبوالهدى الذى لعب دوره العمدة صلاح السعدنى فى (ملف فى الآداب)؛ فحكايته حدثت مع وحيد حامد نفسه، إذ لُفّقت قضية له ومجموعة من الأصدقاء وكانوا يلعبون الكوتشينة فى شقة أحدهم، وعمل لهم «قضية قمار»، لأسباب خاصة بخصومة مع صاحب الشقة.
وطبعًا بالتدريج انقلب إعجابى بالأستاذ «وحيد» إلى حُب وسعى إلى التعرف عليه مباشرة، لكن الحياة مشارب ودروب ومفارق وهموم وأزمات، فلم تتح الفرصة إلا بعد ذلك بـ13 عامًا، فى عام 2008، حين طلبته فى التليفون لعمل حوار تليفزيونى.. بعدها تكلمنا كثيرًا تليفونيًا وعرفتُ منه حكايات كثيرة، حتى دعانى إلى «قعدة» كورنيش النيل التى يسميها «مجلس الشر»، صحفيون وكتّاب وفنانون ومواهب صاعدة تبحث عن فرصة، خليط من بَشر تتفاوت ثقافاتهم وأحلامهم وإمكاناتهم، ويجمعهم حُب الوطن وحُب وحيد حامد.
وكان «وحيد» عمدة مجلس الشر، واختار الاسم من باب الدعابة، فالقعدة فيها قدر من النميمة الخبيثة بين أعضاء المجلس تخصهم دون غيرهم، يتندرون بها على أنفسهم وعلى المجتمع المحيط بهم.
من شاء حظه السعيد أن يقترب من وحيد حامد يأسره من أول لحظة، هو من هؤلاء المبدعين الذين تمضى حياتهم الشخصية على وهج الأفكار التى ينيرون بها حياة الناس، إنسان بسيط، شفاف، كريم، متمرّد على الظلم والقبح، مُحب للحياة والناس، وعشقه الأول الوطن، وكان يحلم دومًا أن تكون مصرُ على رأس العالم عدلاً واستقرارًا ومعيشة.
رحم الله وحيد حامد..