من يملك مفاتيح الدخول الى شخصية امام الدعاة الشيخ الشعراوي يشعر انه يملك بحق كنوزا ثمينة لا تقدر ليس فقط من العلم الديني الشرعي ولكن في كل أبواب المعرفة والادب والثقافة والأخلاق والفلسفة والحب والجمال..
ولعل هذا هو الخطأ الذي لم يدركه كثير من منتقدي الامام فوقعوا في خطيئة النيل منه وتجاوزوا حدود النقد المباح فهم لم يتعرفوا جيدا على مفاتيح شخصيته ولم يقتربوا منها لا ماديا ولا معنويا وبالتالي كان من الصعب عليهم أن يفهموا أو يتفهموا حقيقة المعاني والدلالات أو الإشارات التي تفيض من عوالم نورانية وقبسات روحية وغيرها من أمور يصعب التعامل معها بنظرات مريضة أو ملوثة او برؤى ومنطلقات لا تعرف إلا الاتهام والتجريح..
فهم طبيعة الشخصية الشعراوية ومنطلقاتها الحقيقية وقناعاتها الراسخة وتوجهات الرجل كفيل بإزالة اي لبس أو محاولة للتلبيس والتدليس وتوجيه الاتهامات غير المنطقية مع شخصية كالشعراوي وايضا كفيل بأن يضع النقاط على الحروف حينما تصدر عن الشيخ مبالغة في المدح أو تقديم تبرير فلسفي أوتعبير صوفي أو مما هو ليس بمستغرب من أهل التقى والصلاح وأهل الكشف والانوار.. ولو أنهم أدركوا ذلك لما وقعوا في المحظور أمام عديد من المواقف التى التبس عليهم فهمها..منها على سبيل المثال سجدة الشكر بعد هزيمة يونيو وما قاله عن الرئيس السادات في مجلس الشعب في الاستجواب الشهير وواقعة النائب الوفدي الشيخ عاشور..
.. مفاتيح الشخصية الشعراوية كفيلة بالاجابة عن كثير من الأسئلة على الساحة وبعضها كانت في العمق وتعكس وعيا حقيقياً لما يجري وحالة التربص بالفكرة الاسلامية عموما ولدى أصحابها قدرة على الربط بين الخيوط ومسارات الأفاعي ونعيق البوم والغربان على كل الفضاءات المفتوحة والمفضوحة على السواء..والأسئلة الأخرى التي تحمل من البراءة والحب والفخر بعلم من العلماء الافذاذ صاحب مدرسة فريدة بديعة متميزة وغير مسبوقة في التعامل مع النص القرآني وتقديمه للناس كل الناس على اختلاف مداركهم من اول قمة الهرم الثقافي وصولا إلى القاعدة العريضة من الجماهير المثقفة وغير المثقفة ايضا ..أدهشني سؤال البعض: كيف طاوعت نفس هؤلاء أن يتهموا الشيخ بالإرهاب والداعشية والرجعية وهو الذي لم يؤثر عنه إلا كل خير ولم يضبط مرة متلبسا في صراع ظاهر أو خفي على منصب أو جاه ولم تؤثر عنه خصومة أو عداوة في أي من المواقع التى مر بها..وكان تعلقه وارتباطه بالقرآن الكريم وشرح أياته وتفسيرها.ومثل هذه الاسئلة تعكس حالة من الصدق في الحب والتعلق بالشيخ حب خالص في الله ولله وتؤكد مكانة الرجل والى أي مدى بلغت شعبيته الجارفة وقدرته على أن يمتلك عقول وقلوب الملايين في كل مكان..
** أسعدني الحظ أن اقتربت من الشيخ رحمه الله حضرت كثيرا من لقاءاته..وفي بداية عملي الصحفي مع جريدة المسلمون في منتصف الثمانينات كنت أقوم بإعداد حلقات التفسير للنشر صفحة أسبوعية بعد تفريغ الشرائط -ولازلت احتفظ بها في مكتبتي حتى الآن-.
وزرته في بيته في دقادوس وفي بيته في المنصورية بالهرم وفي استراحته الخاصة بجوار مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها.. وحضرت تسجيل بعض حلقات الخواطر في مسجد الامام الحسين رضي الله عنه ..
وفي كل مرة تتكشف جوانب ملهمة وتشرق امامك انوار لشخصية عظيمة..قمة في التواضع والأخلاق والاحترام والكرم وسط هالات من المهابة والخشوع والأجلال ولم لا فأنت في حضرة عالم نوراني قرآني الحضرة والحضور أينما كنت يأسرك ويأخذ بتلابيب عقلك وفكرك مع انوار الوحي الإلهي وقبسات انوار النبوة الخالدة وشذرات من فيض الحكمة للاولين والمتأخرين ذهن متقد بديهة حاضرة روح طيبة بحباح ممراح سريع القفشات حلو النكات مع هيبة ووقار..
**في العام ١٩٨٩ قررت محافظة الدقهلية تكريم الشيخ الشعراوي واختياره شخصية العام الثقافية باعتباره من اعلام المحافظة.. الاحتفال في مبنى المحافظة بحضور المحافظ وكبار الشخصيات.. كان من المفترض أن نبقى في المنصورة حتى يأتي الشيخ في المساء الا انني آثرت الذهاب ومعي المصور زميلنا الاستاذ احمد عبدالفتاح رحمه الله إلى قريته دقادوس مركز ميت غمروبالفعل وصلنا واستقبلنا أبناء الشيخ استقبالاً حارا وكان الشيخ نائما فانتظرنا في الصالون وبعد قليل أخبرتنا ابنته أن مولانا سيأتي بعد قليل كان يبدو عليه الإعياء رحب بنا ترحيباً شديدا وبروح مرحة قال لي قل يا عم مجاهد.. ايه الحكاية بقى ؟! وادرت جهاز التسجيل وانفردنا بحوار نادر مع فضيلته من قلب منزله بالقرية .
استأذنا في زيارة المركز الإسلامي المجاور للمنزل وكان فضيلته يؤجل افتتاحه.. بحسب ما أخبرني بنفسه حتى يتم ترتيب عملية التمويل له في المستقبل لضمان الاستمرار في أداء الدور..
في كل لحظة كان يتأكد لنا جوانب مشرقة من اخلاق العلماء الكبار تواضعا وحكمة وبساطة مع جمال ودلال..
أذن المغرب.. فصلينا في البراندة وأمنا في الصلاة سائقه الخاص وكان حافظا متقنا ذا صوت ندي..
في لحظة التوجه إلى المنصورة أصر مولانا على أن يستقل الاتوبيس مع الضيوف ولا يركب سيارة خاصة ولا مع السيد المحافظ..وكانت رحلة ما بعدها ولا قبلها رحلة في المتعة والجمال حيث كان كوكبة من العلماء والمسئولين وكبار أدباء الدقهلية .. وكانت المفاجأة من بين الحضور د. محمد عبدالمنعم خفاجي استاذ أساتذة الأدب والنقد بجامعة الأزهر وكان يلقب بالسيوطي الثاني في الأزهر ويوصف بأنه موسوعة ثقافية ودائرة معارف تمشي على الأرض واستهلت الرحلة بعناق حار بينهما وبدأ فيض أو سيل المساجلات الشعرية وايام الوفد ومظاهرات الطلبة وحكايات وقفشات لا تتوقف.والمعروف أن شيخنا كان شاعرا مجيدا وله العديد من القصائد في مناسبات وطنية وفي حب الأزهر والدعوة لإصلاحه وفيثورة الطلاب وفي مدح الملوك فؤاد وفاروق والعاهل السعودي الملك فيصل.. وقد جمع قصائده وحققها الاستاذ د.صابر عبدالدايم عميد كلية اللغة العربية الاسبق بالأزهر..تمنيت لو أن اللقاء كان مسجلا تلفزيونيا ليراه الناس ويستمتعوا بالحوار وذكريات التاريخ ومواقف الرجال. كنا جميعا نتمنى أن يطول الطريق أكثر وأكثر حتى لا ينتهي الحوار.
** في قصر المنصورية كنا نجري حوارا صحفيا للجمهورية بصحبة أستاذنا الكبير عبد اللطيف فايد رحمه الله وكنا في نهار يوم رمضاني أصر الشيخ على الإفطار معه ولما رفضنا أخبرنا أننا معزومين واسرنا كاملة للإفطار على حساب فضيلته.. وقد كان..
من جميل ماقال الشعراوي:
– عندما يتحدّث الناس عنك بسوء وأنت تعلم أنك لم تُخطِئ في حقّ أحد منهم تذكّر أن تحمد الله الذي أشغلهم بك ولم يشغلك بهم..
– إذا لم تجد لك حاقداً فاعلم أنك إنسان فاشل
– لا تعبدوا الله ليعطي، بل اعبدوه ليرضى، فإن رضي أدهشكم بعطائه.
رحم الله العالم الجليل وأجزل له العطاء وجنبنا فتن الاشرار والمأجورين والمتنطعين ممن لا يخافون في الله إلا ولا ذمة..
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com