منذ فجر التاريخ الإنساني والأسرة تحتل مكانة رئيسة على صعيد حماية أفرادها وتربيتهم وتنشئتهم، بل إن الأسرة في الماضي كانت هي المؤسسة الوحيدة التي تؤدي معظم هذه الوظائف، ذلك قبل أن تنتزع المجتمعات المعاصرة منها تلك الوظائف شيئاً فشيئاً. ومع ذلك فما زالت الأسرة تلعب دوراً حيوياً في تشكيل شخصية أطفالها في المراحل العمرية المختلفة. لذا تعتبر الأسرة محدداً أساسياً للصحة النفسية للفرد والمجتمع، لذلك فقد أولى علماء النفس الأسرة أهمية خاصة سواء من المنظور الصحي أو الإنجابي أو من منظور مرضي، واضعين في اعتباراتهم ما للأسرة كبناء ونظام ومناخ وأسلوب حياة من تأثير فعال على نمو وتقدم أعضائها. إذ تعتبر مجالات هامة للبحث أثرتها نظريات وبحوث متعددة في الصحة النفسية، بل وتميزت تلك المجالات عن غيرها بفيض غني من المعرفة العلمية والبينية البحثية.
ولا شك أن الصحة النفسية للأسرة تتحدد بالدرجة الأولى بمدى نجاح الزواج والسعادة في الحياة الزوجية، ولعل ذلك ما يفسر الاهتمام بالتنظير والبحث في قضايا ومشكلات الأسرة من هذا المنظور ، والتي يمكن حصرها في اتجاهات أساسية للبحث تتناول “التوافق الزواجي”، والسعادة الزوجية ، والصراع الزواجي ، والتوتر والعنف الأسري والزواجي وما تتضمنه تلك الاهتمامات البحثية من متغيرات أخرى متعددة
وتكمن خطورة العنف الأسري بشكل عام ، والعنف الزوجي بشكل خاص بأنهما ليسا كغيرهما من أشكال العنف ذات النتائج المباشرة ، والتي تظهر في إطار العلاقات الصراعية بين السلطة وبعض الجماعات السياسية أو الدينية، بل أن نتائجه غير المباشرة المترتبة على علاقات القوة غير المتكافئة داخل الأسرة وفي المجتمع بصفة عامة . غالباً ما يحدث خللاً في نسق القيم ، واهتزازاً في نمط الشخصية خاصة عند الزوجات والأطفال مما يؤدي في النهاية وعلى المدى البعيد إلى خلق أشكال مشوهه من العلاقات والسلوك ، وأنماط من الشخصية المتصدعة نفسياً وعصبياً
ولعل أهم ما يفسر أسباب تصدع الشخصية نفسياً وعصبياً طبيعة الأفكار التي يحملها الفرد عن نفسه ، وما تفرزه تلك الأفكار من شعور وجداني يتمثل بتقدير أو عدم تقدير تلك الذات . وهذا ما يؤكده علماء النفس الإنسانين ، وبصفة خاصة كارل روجرز الذي يُعتبر أول من وضع إطاراً متكاملاً لنظرية الذات من الناحية النظرية والتطبيقية. وهو يشير في هذا الصدد إلى أن الذات تنمو وتتكون من خلال التفاعل بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها وخاصة المحيطة به . كما يرى أن الذات قابلة للتغير والتعديل. ويشير (كولي) في هذا الصدد أيضاً إلى أن الذات تنمو من خلال التفاعل الاجتماعي ، حيث يدرك الفرد ذاته من خلال رؤية الآخرين له ، ذلك أن البيئة المحيطة هي المرأة التي تُعكَس عليها ذواتنا
وبناءً على ما سبق ، وبالنظر إلى البيئة الزوجية باعتبارها أقرب البيئات المحيطة بالمرأة، فإنها قد تسهم في حالة اضطرابها في التأثير سلباً على الصحة النفسية للزوجة . وفي حالة سوائها فقد تسهم في التأثير إيجابياً على الصحة النفسية لديها. كما تؤثر أيضاً على مستوى الرضا الزواجي لدى الزوجات على اعتبار أن العلاقة الزوجية التي تتسم بالعنف الزوجي هي علاقة غير مشبعة للحاجات النفسية الأساسية للزوجة وأهمها على الإطلاق الإحساس بالأمن. وهذا ما أكدته العديد من الدراسات السابقة سواء العربية أو الأجنبية التي تناولت العنف الزوجي وعلاقته بالعديد من المتغيرات المختلفة ومنها الصحة النفسية ، حيث أشارت إلى أن ما تتعرض له المرأة من عنف يحتمل أن يؤثر على صحتها النفسية بشكل واضح.
ويمكننا التأكيد بوجود مشكلة تعاني منها النساء على مستوى العالم اسمها “العنف الذكوري”، سواء أكان الذكر الذي يمارس العنف أباً أم أخاً أم زوجاً. وفي فرنسا وحدها، تشير الإحصاءات إلى أن 400 ألف رجل ضربوا زوجاتهم، ومع ذلك يظل الحال في فرنسا أفضل من رومانيا والدول الاسكندنافية. وبعض حالات العنف تصل إلى حد القتل، وألمانيا لا تزال مشغولة منذ أسابيع بحادثة مهاجر تركي قتل شقيقته لأنها خرجت عن تقاليد العائلة. وفي إسبانيا أصيبت البلاد بصدمة بعد مقتل آنا أورانتس، وهي سيدة أندلسية ظهرت على شاشة التلفزيون وقالت أن زوجها يمارس العنف ضدها منذ زواجهما قبل عقود، فكانت النتيجة أن انتظر زوجها عودتها إلى المنزل وأحرقها حية.
ومشكلة العنف الذكوري ضد المرأة لا يمكن حلّها بقانون وإلا لوجدت فرنسا نفسها بحاجة إلى 400 ألف زنزانة تحتجز فيها الذين مارسوا العنف ضد نسائهم. يضاف إلى ذلك أن الرجل، في كل المجتمعات والثقافات، عندما يمارس العنف ضد زوجته أو ابنته، لا يدرك أنه مخطىء، ولذلك يعتبر العقاب الذي ينزل به جراء ذلك نوعاً من الظلم. فالسارق، عندما يسرق، يعرف أنه يأخذ ما ليس حقا له، والمجرم عندما يقتل، يدرك أنه ارتكب إثما، ولذلك فإن هؤلاء يستجيبون للعقاب الذي تفرضه المحاكم عليهم، أما الذي يمارس العنف ضد زوجته فإنه مقتنع بأن الخطأ ليس مصدره المرأة دائماً.
ولابد من الأشارة هنا إلى أن هذه المشكلة ليست مقتصرة على بلد معين أو مجتمع معين، فهي ظاهرة منتشرة في الكثير من دول العالم . حيث نستعرض هنا بعض الإحصائياًت الدولية والعربية للدلالة على حجم وانتشار هذه المشكلة . فقد أشار المكتب الفدرالي السويسري للإحصاء أن عدد القتلى من الجنسين نتيجة النزاعات الأسرية بلغ في المتوسط 26 حالة سنويا بين عامي 2000 و2004.
وذكرت دراسة نشرها المكتب أن 22 سيدة لقين مصرعهن على أيدي رجال، وأربعة رجال قضوا نحبهم بأيدي زوجاتهم عن كل عام في تلك المدة.
وتقول الإحصائياًت أن 58% من حالات قتل النساء في تلك المدة الزمنية وقعت أثناء العلاقة الأسرية ولكن في مراحل التوتر والخلاف الحاد.
وأشارت الإحصائية إلى أن 25% من حوادث القتل (أي ما يعادل 34 حادثاً) وقعت أثناء مدة الانفصال، أما النسبة الباقية 17% فوقعت بعدها.
واللافت للنظر أن قرابة نصف حالات القتل حدثت إثر تهديد مباشر من الجاني بارتكابها ، أو عقب اعتداء جسدي على الضحية، وبالرغم من أن 39% من الضحايا قمن بالفعل بإبلاغ الشرطة إلا أنّ هذا لم يوفر لهن الحماية الكافية. وتقع 41% من حالات العنف الأسري بين السويسريين، وتنخفض النسبة إلى 20% في الزيجات المختلطة بين السويسريات والأجانب، بينما تصل نسبة الأجنبيات الضحايا إلى 29% على يد أزواجهن من الأجانب أيضاً ، وفي الأغلب يكون الطرفان (أي الزوج والزوجة) من نفس الجنسية. وفي بريطانيا ، تعاني سيدة من بين كل تسع سيدات بريطانيات من الإساءة بقسوة في بريطانيا كل عام، وينحى باللائمة على العنف الأسري في وفاة 140 امرأة في البلاد في العام الماضي (2007-2008) . ومن جهة أخرى، قالت مؤسسة / ريفيوج / خلال بدء حملة الملصقات التي ستنشرها في كافة أرجاء البلاد ، والتي تتكلف مليون جنيه استرليني أن امرأة من بين كل أربع نساء بريطانيات تتعرض لمعاملة سيئة في منزلها على مدار حياتها . ويشكل العنف الأسري ما يقرب من ربع جرائم العنف وأقل من ثلث الحوادث التي تبلغ بها الشرطة، وفقاً لما ذكرت المؤسسة، التي حثت كل بريطاني على تحمل مسؤوليته تجاه تلك المشكلة. وقالت رئيسة مؤسسة ريفيوج ساندرا هورلى”من خلال الاعتراف بأن العنف الأسري يمثل مشكلة، ومن خلال إدراك أننا جميعاً مسؤولون عن تلك المشكلة، يمكننا إحداث تغييرات في الوضع الذى نحتاج إليه “.
وتتمتع بريطانيا بسمعة سيئة في مجال العنف الأسري، حيث كشف بحث صدر مؤخراً أن أكثر من ثلث البريطانيات يقلن أنهن شاهدن أصدقاءهن وهن يتعرضن لمعاملة سيئة سواءً كان بدنياً أو لفظياً على يد أزواجهن أمام الناس (حمدونة ، 2007 :ص 68)
كما وتشير الدراسات إلى أن الأشخاص الأكثر عرضة للعنف العائلي هم النساء والأطفال . ففي دراسة إحصائية أجريت في دائرة الطب الشرعي في حمص خلال العامين 2004-2005 تبين أن نسبة الأذيات الجسدية الواقعة على المرأة ، والناجمة عن العنف المنزلي :
– الزوج كان هو المعتدي في 98 % من الحالات.
– وفي82% من الحالات كان المعتدي مدمناً على الكحول .
– وفي99 % من الحالات حصل الاعتداء لأكثر من مرة مما يعطي مؤشراً على ميل المرأة إلى عدم التصريح عن العنف الذي تتعرض له لأسباب اجتماعية أو عائلية أو بيئية .
– وفي 47% من تلك الحالات كانت أعمار النساء المعنفات أقل من عشرين عاماً مما يشير إلى أن الزواج المبكر يساهم في زيادة فرص تعرض المرأة للعنف ؛ حيث تكون غير ناضجة بما فيه الكفاية للتعبير عن نفسها والدفاع عن آرائها وحقوقها ، أو عدم مقدرتها على التفاعل مع الحياة الزوجية والتلاؤم بشكل كافِ لحل مشاكلها .
– وفي 81% كانت الأذيات على شكل كدمات وسحجات.
– وعند %41من الحالات وجدت الأذية على الوجه والعنق.
وتبين أنه ليس هناك مؤشرات ذات دلالة على علاقة العنف المنزلي الجسدي بالمستوى الاقتصادي للعائلة أو المستوى التعليمي للمرأة .
وكشفت دراسة أعدتها مديرية الإحصاء الرسمية المغربية. أن النساء المغربيات يعانين من العنف المنزلي بنسبة 73% ، والزوجي بنسبة 63% ، والأسري بنسبة 6.1%، والعنف المترتب عن علاقات الجوار وبأماكن العمل بنسبة 4.3% ، ومن طرف الغرباء بنسبة 3.3% ، وعنف أشخاص مجهولين بنسبة 2.1%.
والسويد احدى الدول الأوربية التي تعد في مصاف الدول الأكثر تقدماً وتنظيماً ، إلاّ أن موضوع العنف ضد المرأة لاتخلو منه هذه الدولة أيضاً، حيث يهتم المجتمع بكل فئاته بهذا الموضوع من خلال وجود المراكز المتخصصة لمتابعته، ففي مدينة مالمو في جنوب السويد (وهي ثالث اكبر مدينة في السويد ) يوجد فيها مركز متخصص لمتابعة . حالات العنف الأسري والذي يطلق عليه اسم مركز الأزمات.
وتشير الإحصائياًت المتوفرة في هذا المركز بوجود أعداد كبيرة من النساء اللواتي يتعرضن للعنف سنوياً من قبل أحد أفراد الأسرة .
ويعد مركز الأزمات في مدينة (مالمو) السويدية أحد المراكز التي تم افتتاحها في بعض المدن السويدية وخصوصاً المدن ذات الكثافة السكانية العالية ، ويهتم هذا المركز الذي افتتح في العام (2000) متخصص باستقبال النساء المتعرضات للعنف وأولادهن من قبل الزوج أو أحد أفراد الأسرة ، حيث تقدم لهن خدمات اجتماعية وإرشاديةعلى مدى الأربع وعشرين ساعة (عن طريق الهاتف أو الزيارة المباشرة للمركز) .
ويمتلك المركز سكناً محمياً للنساء المعنفات وأولادهن ، حيث يمكن أن يوضعوا فيه متى ما دعت الحاجة إلى ذلك . ومن الجدير بالذكر أن هذا المركز لا يقتصر عمله على ذلك فحسب، بل هو مركز للأبحاث والدراسة للموضوعات التي تهتم بالعنف الأسري وبكل أشكاله .
وفي هذا الصدد تقدم لنا الإحصائياًت المتوفرة في مركز الأزمات لمدينة مالمو في السويد في العام (2007 ) حجم هذه المشكلة .
اذ سجلت لدى دوائر شرطة مالمو( 291) دعوى عنف داخل الأسرة ، كما تضيف إحصائياًت مركز الأزمات إلى التزايد المستمر في عدد النساء اللواتى طلبن الحماية والمساعدة في العام 2007 عنه في العام 2006.
ففي العام 2007 حصلت( 247 ) امرأة على المساعدات المتنوعة وهي على شكل مساندة اجتماعية ونفسية وقانونية من خلال زيارتهن للمركز ، و(78) امرأة حصلن على سكن محمي بسبب خطورة أعمال العنف الموجه ضدهن.
إن العنف ضد المرأة يميل إلى الزيادة والتفاقم في أي حالة طارئة، بما فيها الأوبئة. ويمكن أن يشتد خطر معاناة النساء من العنف نتيجة للضغوط النفسية، وتفكُّك الشبكات الاجتماعية وشبكات الحماية، وزيادة الصعوبات الاقتصادية، وانخفاض فرص الحصول على الخدمات.
ويأتي إقليم شرق المتوسط في المرتبة الثانية على مستوى العالم من حيث انتشار العنف ضد المرأة (37%). ويرجع ذلك إلى النُظُم الهيكلية لعدم المساواة بين الجنسين في مختلف مستويات المجتمع، والأمر يتفاقم بفعل الأزمات السياسية وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في الإقليم.
كما أن الإقليم يواجه طوارئ إنسانية أكثر من أي مكان آخر في العالم، وبه عدد هائل من اللاجئين والسكان النازحين داخلياً. ينبغي لمرافق الرعاية الصحية تحديث مسارات الإحالة للخدمات المتاحة محليًا لتشمل معلومات عن خدمات الدعم النفسي الاجتماعي والمشورة، وخدمات الحماية، والخطوط الساخنة، والملاجئ. يجب أن يكون مقدمو الخدمات الصحية على دراية بمخاطر زيادة العنف ضد المرأة خلال هذه الفترة، لكي يتمكنوا من تقديم الرعاية الصحية المناسبة والرؤوفة للناجيات حينما يلجأن إلى المرافق الصحية (سواء كن مُصابات بكوفيد-19 أم لا، وسواء أفصحن عن تعرضهن للعنف أم لم يُفصحن). فبإمكان مقدمي الخدمات الصحية مساعدة الناجيات وتقديم الدعم الأولي والعلاج الطبي المناسب لهن. وتؤثر تدابير العزل وتقييد الحركة والبقاء في المنزل لاحتواء انتشار العدوى أثناء جائحة كوفيد-19 تأثيرًا حادًا وبخاصة على المرأة. وتزداد بشدة فرص تعرُّض النساء وأطفالهن للعنف، إذ يضطر أفراد الأسرة للبقاء معاً وقتا أطول، وتشتد الضغوط النفسية التي تتعرض لها الأسرة، وتتفاقم تلك الضغوط حينما تعاني الأُسرة أيضاً من الخسائر الاقتصادية أو فقدان الوظائف.
وتشير المعلومات الأولية الواردة من بلدين اثنين من بلدان الإقليم إلى زيادة تتراوح بين 50 و60% في عدد الحالات، استناداً إلى اتصالات طلب المساعدة من الناجيات من العنف عبر الخطوط الساخنة للمنظمات النسائية.
وتعاني الخدمات الصحية التي تعالج تلك المشاكل مثل التدبير العلاجي للاغتصاب، ودعم الناجيات عبر الخطوط الأولى، وخدمات الصحة النفسية الأساسية، تعاني تلك الخدمات كلها من الإنهاك بسبب أعباء الجائحة. وقد يكون لذلك نتائج مأساوية، لا سيما في البلدان ذات الخدمات الصحية والموارد المالية المحدودة وفي الأوضاع الإنسانية الصعبة.
وينبغي إيلاء اهتمام خاص للفئات الأشد ضعفاً، ومن ضمنها النساء ذوات الإعاقة، اللاتي يتعرضن لخطر متزايد من العنف المنزلي، وقد يواجهن مزيداً من العقبات في الوصول إلى الخدمات التي يحتجن إليها، مثل المساعدة الاجتماعية والرعاية المنزلية، بسبب حظر التجول والتباعد الاجتماعي أو القيود المفروضة على التنقل.