مازال أمامنا زمن طويل لكى نقول إن حركة الإصلاح والتجديد الدينى فى مصر قد انتصرت وآتت أكلها، لكننا نستطيع أن نقول فقط إنها نجحت فى أن ترسم للأمة طريق العودة إلى ذاتها، وأن تسقط المشروع العلمانى التغريبى، الذى كان يعمل بكل همة فى جميع الاتجاهات لفصل مصر عن جذورها العربية الإسلامية، وربطها بالغرب لتكون جزءا منه، أو جزءا تابعا له، بدعوى أن هذه التبعية هى السبيل الوحيد الذى يجب أن تسلكه مصر إن أرادت أن تلحق بركب الحضارة والعلم الحديث.
لم تكن حركة الإصلاح والتجديد منذ انطلاقها ضد الغرب، ولا ضد الحضارة الغربية ومنجزاتها، ولا وقفت موقفا معاديا للأخذ من هذه الحضارة وتلك المنجزات، بل لعل العكس هو الصحيح، فقد كانت على بينة من أن تعلم العلم الحديث والأخذ بأسباب الحضارة فرض عين، وأن عليها أن تفرز لتقرر ماذا تأخذ من هذه الحضارة وماذا تترك، لكنها كانت ومازالت ضد المشروع الاستعمارى العسكرى الغربى، وضد المشروع التغريبى الكبير، الذى أراد أن يكون بديلا عن احتلال الأوطان، بالعمل على احتلال عقول الشعوب، فيغير من هويتها وثقافتها وشخصيتها، ويجعلها صورة ممسوخة من هوية الغرب وثقافته وشخصيته.
وكان سلاح الغرب الأمضى فى الترويج لمشروعه (التخريبى) يعتمد على ربط الدين بالتخلف فى الضمير الشعبى، وربط الثقافة الوطنية الأصيلة بالجمود والرجعية، وابتداع علاقة تناقض بين القديم والجديد، وبين الأصالة والمعاصرة، لإحداث قطيعة تامة بين الشعب وتراثه، بينما يتم على الجانب الآخر ربط المشروع التغريبى بالعلم والثقافة والتمدين واحترام حرية الإنسان وحقوق المرأة، وكل ماهو جديد ومثير، من خطوط الموضة إلى أرقى أنواع العطور والسجائر، إلى حفلات الرقص المختلط بين الشبان والشابات وما إلى ذلك، وإشاعة أن التمسك بالموروث الثقافى والدينى يعنى البقاء على التخلف والجهل والمرض وكراهية الحياة.
استمر هذا المد التغريبى لحوالى ستة عقود من القرن العشرين، وألقى بظلاله على حياة كثير من المصريين الذين راق لهم تقليد الأجانب فى ملبسهم ومشربهم وطريقة حياتهم، حتى صاروا غرباء أو شبه غرباء عن دينهم وهويتهم، ويمكنك أن تشاهد مظاهر هذا التغريب فى أفلام السينما التى أنتجت فى تلك السنين، فما من فيلم إلا وترى فيه الرقص والخمر والحانات، وترى فى البيت المتفرنج ركن البار العامر بزجاجات المنكر.
وحين تسمع من الفنان الطيب حسين رياض فى أحد أفلامه أن الله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه العزيز ” الجنة تحت أقدام الأمهات “!!، أو تسمع من الفنان القدير عبدالوارث عسر فى أحد أفلامه أنه ذاهب ليصلى الظهر يوم الجمعة !!، أو تسمع أغنية العبقرى محمد عبدالوهاب ” الدنيا سيجارة وكاس “!!، وأشياء كثيرة من هذا القبيل، لا بد أن تعتريك الدهشة من قدرة هذا التيار الجارف، الذى أخذ الناس بعيدا عن الدين، وأقصاهم عن هويتهم وثقافتهم وتراثهم، وألقى بهم فى بيئة غير بيتتهم.
من الصعب تحديد تاريخ معين لبدء سقوط المشروع التغريبى، وإن كان يحلو للبعض أن يجعل عام النكسة فى 1967 حدا فاصلا، حدثت بعده هزة الإفاقة من هذا المشروع ” الكابوس”، ومن الصعب أيضا تحديد الجهة أو الجهات التى أسقطت هذا المشروع بعد سنوات من المقاومة، وإنما المتيقن أنها ” أمشاج مختلطة ” على حد تعبير الزميل الكبير الدكتور كمال حبيب فى توصيفه لحركة الإحياء والتجديد، بمعنى أن جهودا كثيرة تضافرت لإسقاط هذا المشروع على مدى سنوات طويلة، شارك فيها علماء ودعاة ومفكرون وأكاديميون وسياسيون وكتاب وأدباء وشعراء يصعب حصرهم، من لدن جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده إلى الشيخ الغزالى ود. محمد عمارة ومن جاء بعدهم، وسار على دربهم، هؤلاء كانوا على وعى بخطورة التبعية للغرب، فانحازوا إلى تيار الانتماء إلى العروبة والإسلام، وكانت رسالتهم نشر الوعى بضرورة العودة بالأمة إلى جذورها.
نستطيع أن نأخذ كاتبا كبيرا مثل الدكتور طه حسين نموذجا لهذا التحول الكبير الذى حدث فى بلادنا من الانبهار بالمشروع التغريبى والذوبان فيه إلى مرحلة الإفاقة والعودة إلى الذات، فقد كتب د. طه حسين فى ( مستقبل الثقافة فى مصر ) يقول : ” إن الدين الإسلامى يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومى، لا كدين إلهى نزل يبين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح فى الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لايجوز أن يبقى الإسلام فى صميم الحياة السياسية، أو يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة، فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين.”
وبعد سنوات من مقاومة المشروع التغريبى وبيان فساده، ينقل الدكتور محمد عمارة فى كتابه القيم ( طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام ) عن الدكتور طه قوله : ” إن الإسلام وطن، بل هو الوطن المقدس، والصانع الأول للمواطن المسلم عبر الزمان والمكان.”
لقد تغيرت رؤية التيار الشعبى الواسع فى مصر للمشروع التغريبى مثلما تغيرت رؤية أديبنا الكبير، وصار هناك وعى متزايد بخطورته على الحاضر والمستقبل، وهذا هو معنى إسقاطه شعبيا، حيث لم يعد مبهرا أو جاذبا إلا لفئة ضئيلة من المستفيدين منه والمروجين له، وهؤلاء مكشوفون ومرفوضون شعبيا، ولولا أن وراءهم من يدفع ويدعم ويفتح المنافذ لانتهى أمرهم.
ولكى ننتقل من إسقاط المشروع التغريبى إلى هزيمته نحتاج إلى مزيد من الوعى والجهد، وترشيد العقل الجمعى حتى يغادر حالة الدوران حول قضايا تاريخية قديمة لا طائل من ورائها، إلى الانخراط فى قضايا العصر وتحدياته، وبناء نموذج حضارى عربى مسلم مغاير للنموذج الغربى، يقوم على العلم والحرية والتراحم والاستقلال والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية والتنمية الذاتية والأمن المجتمعى، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.