في ألمانيا تستطيع أن تنتقد الرب وتنتقد المسيح والسيدة العذراء وتمضى سالماً، لكنك لن تسلم إذا تجرأت وانتقدت إسرائيل تلميحاً أو تصريحا، فإسرائيل هي ” التابو الأكبر” الذي لا يمكن أن يذكر بسوء، والسبب في ذلك يعود إلى عقدة الذنب التي تسيطر على الألمان جراء ما فعله هتلر باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، والقصص الرهيبة التي تشاع عن المحارق الجماعيـة ” الهولوكوست ” التي كان يقتلهم فيها .
وعقدة الذنب هذه تستغلها إسرائيل استغلالا كبيرا منذ زمن بعيد، ونجحت في أن تحول هذا الاستغلال إلى عملية ابتزاز منظمة، تحصل بمقتضاها من المانيا على ما تريد من تعويضات مالية وأسلحة ودعم سیاسی غیر محدود، وبسبب عقدة الذنب استطاعت إسرائيل أن تسيطر على مراكز صناعة القرار ورسم السياسات في ألمانيا، ومن ثم لا تستطيع شخصية مشهورة توجيه نقد لإسرائيل دون أن تتعرض للقصف الشديد.
وهذا بالضبط ما حدث مع الشاعر والروائي الألماني جونتر جراس، الذى يعد أكثر الأدباء العالميين المعادين لسياسات دولة إسرائيل، وصمت الدول الكبرى إزاء هذه السياسات اللاإنسانية، والأكثر خطورة على السلام العالمى، وقد واجه العديد من الاتهامات بمعاداة السامية، والانتماء للنازية، وأنه يحاول الهروب من جرائمه التاريخية، لكنه كان يرد بالسخرية من هذه الاتهامات، ومن الصحف التى ترددها دون وعي، إلى أن بلغ به الأمر حد الهجوم على الصحافة والسياسة، مؤكدا ” أن الحرب التى أتعرض لها لاتشير إلى وجود صحافة حرة وحياة ديمقراطية فى ألمانيا.”
ولد جراس عام 1927 وتوفى فى 2015، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1999، ويعد أحد أهم الأدباء الألمان فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أطلق عليه لقب ” شاعر الضمير الإنسانى”، وفى عام 2012 فاجأ الألمان والعالم أجمع بقصيدة عنوانها ” ما ينبغى أن يقال “، هاجم فيها إسرائيل التي تمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، وأدان بلاده ” ألمانيا ” التي قدمت لإسرائيل غواصة نووية متطورة فى ذلك الوقت، يمكن أن تشارك في عدوان إسرائيل على جيرانها، كما أدان الصمت الغربي إزاء جرائم إسرئيل بحق الشعب الفلسطينى.
في هذه القصيدة التي نشرتها ثلاث صحف أوروبية في وقت واحد يشير جراس إلى أن إسرائيل المالكة للسلاح النووى تهدد السلام الدولي الهش أصلا، مؤكداً تضامنه مع دولة إسرائيل بسبب مسئولية المانيا النازية عن المحرفة ضد اليهود، ثم انتقد سياسة بلاده القائمة على تسليح إسرائيل وتوريد غواصات إضافية إليها، بما يجعل من ألمانيا شريكاً في المسئولية عن أية حرب مدمرة قد تندلع في المنطقة، معلنا أنه بهذه القصيدة قد تخلص شخصيا من عقدة الذنب تجاه إسرائيل واليهود.
وفور نشر القصيدة بدأ الهجوم الكاسح على الأديب العالمي، حيث اتهمه البعض بـالعداء للسامية، والبعض الآخر بـالسذاجة السياسية أو العجز عن التحليل الصحيح، أما الذين دافعوا عنه فأقصى ما استطاعوا أن يقولوه إنه أديب كبير، ومن حقه أن يقول ما يراه صحيحاً، لكنه عندما يتحدث في السياسة بجد صعوبات كبيرة، ويحيد عن طريق الصواب، وقد ارتكب هذه المرة خطأ كبيرا.
أما إسرائيل فقد جن جنونها بسبب قصيدة جراس، وشنت هجمات ضارية ضد الرجل وقررت حظر زيارته لها إلى أن مات.
يقول جراس في قصيدته :
لماذا أمنع نفسي من ذكر ذلك البلد بالاسم؟
البلد الذي يمتلك منذ سنوات وفي سرية
قدرات نووية تتزايد
غير أنها خارج نطاق المراقبة
لأنه لا يسمح لأحد بإجراء تفتيش
الصمت العام عن هذا الفعل الإجرامي
الذي يندرج تحته صمتي
أشعر به مثل كذبة تدينني
لهذا أقول ما ينبغي أن يقال
لماذا صمت حتى الآن؟
لأني رأيت أن أصلي الذى أنتمى إليه به عيوب
لا يمكن أن تمحى أبداً
يمنعني من البوح بهذه الحقيقة
وأن أواجه بها إسرائيل
إن القوة النووية ” إسرائيل “
تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته
ولأننا أيضاً كألمان مدانون بما يكفى
قد نصبح الموردين لجريمة متوقعة
ولهذا فإننا شركاء في الذنب
لكنني أعترف: لن أصمت بعد اليوم
لأنني سئمت نفاق الغرب.
وأقولها صريحة :
لابد من مراقبة دائمة لقدرات إسرائيل النووية
كما تراقب منشآت إيران
حتى يعود السلام إلى هذه المنطقة