إنّ النشاط الإنساني الذي يجب أن يسبق أي نشاط أو فعل آخر هو التفكير والتخطيط، لذلك فإن البداية الصحيحة لحل الأزمات والعبور نحو النهضة هو تأسيس مكان آمن للتفكير والتخطيط، أي العقل الاستراتيجي للدولة، العقل الذي من خلاله يتم حشد وتنسيق وإنتاج المعرفة ودراسة البيئة الداخلية والخارجية وتوقع المستقبل.
يتم هذا الهدف، من خلال تدمير الدين بالسخرية منه ومِن رجاله، وتهويل المآخذ عليه، وتلميع من يهاجمونه، ووصفهم بالمفكّرين، واستبداله بالعقائد الباطنية المنحرفة، التي يتم تسويقها على أنها أكثر «إلهاماً» للناس، مهما كانت ساذجة أو بدائية أو متناقضة، وتمجيد أصحابها، وإبرازهم كرموز للرأي الحر والفكر المختلف، بالإضافة إلى استبدال المؤسسات الدينية المحترمة، بمنظمات وهمية تسهم في صرف انتباه الناس عن الإيمان الحقيقي، وجذبهم لأنواع العقائد الدخيلة.
تكتمل هذه الخطوة بإفساد التعليم، من خلال صرف الناس عن تعلّم أي شيء بنّاء وواقعي وفعال، والعبث بالنسق الاجتماعي، بخلق منظمات وهمية، تهدف لنزع الإحساس بالمسؤولية لدى المجتمع، وإضعاف الحس الوطني والولاء للبلد وحكومته، وفي الغالب، يتم ذلك بواسطة دعم رموز إعلامية لم تكن معروفة سابقاً، ولا تحظى بقبول الناس، لكنها وَجَدت دعماً غير معلوم، وأصبحت ذات تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، بطريقة تتفق مع من يحرك الخيوط سراً!
إنّ غياب هذه المنصة الآمنة، يعني: السير في الظلام دون نور كاشف. عدم الاستفادة من الخبرات المعرفية وتوجيهها لصالح الغايات الوطنية عدم القدرة على قراءة واستغلال مصادر قوتنا. فعلى سبيل المثال، ومثلما يقال ان السودان بموارده المختلفة مؤهل ليكون سلة غذا العالم فهو بموارده المتمثلة في النباتات الطبية والعطرية مؤهل أن يكون سلة دواء العالم، (الدواء الآمن)،
لكن قراءة هكذا مصادر والاستفادة منها غير ممكن في ظل غياب العقل الاستراتيجي للدولة. عدم القدرة عل معرفة الفرص الكبيرة المتاحة لنا وبالتالي عدم الاستفادة منها. عدم القدرة على معرفة نقاط ضعفنا ومهدداتنا ومن ثم السعي لحلها والتعامل معها. اختراق الإرادة الوطنية من قبل أصحاب المصالح الضيقة والأجنبية. الوقوع في فخ منهج الإدارة بالأزمة، بأن نكون في حالة لهث دون رؤية ودون قدرة على اتخاذ التوجهات والقرارات الصحيحة.
وهكذا وفي إطار الحرب اللاخطية ( الحرب دون بندقية ) دخلنا في سلسلة أزمات لا حصر لها منذ الاستقلال ، أزمة نظام الحكم، أزمة الجنوب، الأزمات السياسية والاقتصادية ، أزمة دارفور، أزمة المخدرات، بداية التفتيت الوجداني وزراعة الكراهية، نفس الذي يحدث إقليمياً،
أنظر كيف يحارب أبناء البلد بعضهم البعض العراقي يضرب العراقي والسوري يضرب السوري، اليمني يضرب اليمني، الليبي يضرب الليبي،…إلخ نتحارب بشعبنا وسلاحنا ومالنا لصالح العدو. منتهى الغباء، كل ذلك لغياب العقل الاستراتيجي والرؤية الوطنية الجامعة.
ولعله من القفزات الهائلة في علوم إدارة الصراع الاستراتيجي، هو التغير الكبير في وسائل الاستعمار التقليدية المتمثلة في الآلة الحربية إلى نوع جديد وهو الاستعمار العقلي والثقافي، حيث يتم من خلال الاستراتيجيات التربوية والثقافية والنفسية والاجتماعية، تشكيل الإنسان وفق التصور الذي يخدم الأهداف المحددة.
وهناك اتجاهين لإتمام هذه العملية: أولهما أن يتم التشكيل وفق المرجعية الوطنية. والثانية أن يتم التشكيل وفق مرجعية الطرف الأجنبي، وهو ما يجري تحقيقه عبر العولمة الثقافية وسيطرة الدول الكبرى على آليات البناء الثقافي والفكري والأخلاقي، وقد كان الضعف في هذا الجانب هو أحد أسباب تفكك الاتحاد السوفيتي في حربه الباردة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث جرت عمليات تشكيل وجداني وثقافي للشعب السوفيتي وفق المرجعية الأمريكية في مفهوم وفلسفة الحياة.
وإذا كانت السيطرة تتم بالآلة الحربية فعدد الرؤوس النووية السوفيتية هي في الواقع ضعف عدد الرؤوس الأمريكية، لكن نقطة الضعف كانت في الضعف الثقافي، وهذا مبدأ معروف في علم الاستراتيجية يقوم على أن تحقيق السيطرة يتوقف على قوة (مركز الإرسال الثقافي) والسيطرة الثقافية. لذلك إذا نظرنا وفق منظور استراتيجي عميق لعمليات تحقيق النهضة والسلام والأمن القومي، سنجدها تبدأ بالهندسة الإنسانية، وهو ما يجعل الوزارات المعنية بهذا التشكيل كالتربية والتعليم والإرشاد الديني والثقافة، تأتي في مقدمة البروتوكول في الدول المتقدمة، بينما تتزيل القائمة في دولنا.
أما في جانب الصراع الاستراتيجي الدولي، سنكتشف أن الجانب الثقافي العقدي يشكل أحد أهم محاوره، فهو لا يقتصر فقط على المصالح الاقتصادية. لذلك ظهر الاستعمار الثقافي بغرض إعادة تشكيل الإنسان وفق مرجعية حكام النظام العالمي و وفق مفهومهم وفلسفتهم للحياة. وهو ما يجعل من السيطرة على عمليات التربية والتعليم والإرشاد الديني والثقافة، أي وزارات الهندسة الإنسانية،
أهم من السيطرة على العمليات العسكرية. وإذا ما نظرنا لمشكلة السودان من زاوية ثقافية سنجد الكثير من معيقات بناء الهوية الوطنية السليمة، فلا زالت هناك عصبيات وجهويات، وهناك خلل في التمييز بين مفهوم الدولة والحكومة والحزب، كما يوجد ضعف في ثقافة احترام القانون والنظام والمؤسسية، هناك ضعف في الإيمان بمبادئ الشفافية وقبول النقد واحترام الرأي الآخر، واحترام الزمن وإتقان العمل والعمل الجماعي. إلخ. من اجل إعادة تشكيل الحقيقة، سيطر على الإعلام.
في الوقت الراهن معظم الناس يستوعبون ما يعرفونه عن الحياة من وسائل الإعلام الرئيسية. يرسم الإعلام الصورة للجميع لكي يرونها. فان كانت تلك الصورة مشوشة على الدوام فان الأكاذيب تصبح مقبولة وكأنها حقائق. على سبيل المثال، أطلق ما يكفي من الأكاذيب بتواتر وسرعان ما ستصبح تلك الأكاذيب حقائق مقبولة. انسج ولفق، حرف واستغل المنابر العامة مثل التلفزيون والراديو والصحافة المطبوعة فيمكنك إحداث التأثير والسيطرة على عقول أغلبية المواطنين في أي منطقة تختارها.
هذا التأثير المخرب يتضمن تحريض جماعة ضد أخرى بهدف خلق فتنة داخلية من اجل السخرية والاستهزاء بالمبادئ الأخلاقية والقيم الوطنية وتحديها بغرض هدم أي لبنة في الأساس الروحي القوي أو الانسجام الذي يشكل الثقافة الوطنية الفريدة. وهذه مهمة سهلة جدا ان كان الكثيرون من المستهدفين أصبحوا أكثر كسلا واقل تعليما واقل معرفة وغير قادرين على التفكير وأكثر ميلا للامبالاة.
لذلك من الصعوبة بمكان تحقيق النهضة دون الاعتناء الكافي بالبعد الثقافي، لا يمكن كمثال تأسيس حكم راشد دون إرساء ثقافة الحكم الراشد عبر عمليات التربية والتعليم والثقافة، وبالتالي، وإجابةً على سؤال الطالب، ومن وجهة نظر الخصم، فإن تعطيل أو إضعاف المنظومة المسؤولة عن هكذا مهام أمر ضروري. البلد المستهدف تدميره يفعل شى خاطي وحركات لا إرادية تأتى بنتائج عكسية في مواجهة العدو، فمن الطبيعي أن يكون لأى بلد معارضيه بل وأعداء قد يكونوا مجرمين بسطاء أو من هم فى خلاف أيديولوجي مع سياسة الدولة، أو شخصيات مضطربة نفسياً تعادى كل شى في المطلق وهناك أيضاً مجموعات صغيرة من عملاء الدول الأجنبية
يتم شراؤهم بإغراءات مادية ويتم تجنيدهم لحسابهم الخاص، وفى تلك اللحظة التى يتم فيها تحريك كل ما ذكر من هذه الأدوات باتجاه واحد يأتي الوقت الذى تمسك بقبضة عدوك الذى تتمنى تدميره وتجعله يستمر حتى يرتطم بالجدار.
وهنا تجبر الحركة المجتمع بالكامل للانهيار وتأخذه إلى أزمة حقيقية وهذا هو بالضبط أسلوب فن القتال حيث لا يتوقف العدو بل تسمح له أن يذهب وتذهب أنت معه نحو الإتجاه الذى يريده هو، ففى مرحلة تدمير الأخلاق سيكون من الواضح وجود اتجاهات فى كل مجتمع وفى كل بلد التى ستذهب فى الإتجاه المعاكس للأخلاق الأساسية، والقيم والمبادئ لاستغلال هذه الحركات للإستفادة منها وهذا هو الغرض الأساسي للتخريب.