ان تكلفة الإرهاب الذي ضرب مصر على مدار العقود الماضية، كانت ممتدة ومركبة وعميقة الأثر في قطاعات المجتمع والدول، بل إنها صاغت صورة سلبية عن الدولة المصرية لدى الرأي العام الخارجي. لكن الدولة المصرية واجهت ذلك عبر حشد وتعبئة كافة جهود مؤسساتها لإحلال الأمن والاستقرار؛ إدراكًا منها أنه الخطوة الأساسية للانطلاق للتنمية، وهو ما برز بالفعل في تراجع بل وانزواء النشاط الإرهابي خلال السنوات الأخيرة، ارتباطًا بذلك جاءت دعوة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في سابقة لم تحدث في أي دولة أخرى، على اعتبار مقاومة الإرهاب كحق أساسي من حقوق الإنسان.
تؤمن مصر إيماناً راسخاً بأنه ليس بالإمكان التصدي للتهديدات الراهنة للسِلم والأمن الدوليين، وفى مقدمتها الإرهاب إلا من خلال مُعالجة الظروف المُؤدية لها وقطع الطريق أمام مُحاولات الجماعات الإرهابية لاستغلال تلك الظروف للترويج لفِكرها المُتطرف، وهو ذات التوجُّه الذي نُصَّ عليه في العديد من قرارات مجلس الأمن، كما تطرق إليه المحور الأول لاستراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمُكافحة الإرهاب فيما يتعلق بمُعالجة الظروف المُؤدية إلى انتشار الإرهاب.
وانطلاقاً من المُقاربة المصرية الشاملة للتصدي للإرهاب ومُواجهة الفِكر المُتطرف، وإيماناً بأن التنمية المُستدامة والرخاء الاقتصادي والاجتماعي يُساهمان في خلق بيئة طاردة للإرهاب والتطرف واقتلاع الجذور الرئيسية لهما، فقد بذلت الدولة جهوداً حثيثة للنهوض بالاقتصاد المصري ومُؤشراته وتطوير البنية التحتية ومشروعات التحول الرقمي، وذلك بالتزامن مع اعتماد مُبادرات لتحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين خاصة في مجالات الصحة والتعليم وتمكين المرأة والشباب، فضلاً عن الاهتمام بنشر الوعي والفكر الصحيح بقضايا التنمية والتصدي للشائعات التي تُروج لها الجماعات الإرهابية المُضللة.
لم تتقاعس الدولة المصرية عن التعامل مع أبعاد الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، وذلك من خلال تكثيف العمل الجاد والمُتواصل، الذى يرتكز على تخطيط شامل ورؤية طموحة للمُستقبل، فأطلقت الدولة “استراتيجية التنمية المُستدامة: رؤية مصر 2030” في فبراير عام 2016 لتُمثل النسخة الوطنية من الأهداف الأممية للتنمية المُستدامة 2030 وأجندة أفريقيا 2063،
والإطار العام المُنظم لخطط وبرامج العمل المرحلية خلال السنوات المُقبلة، فحَرِصَت الدولة على أن يكون إعداد وصياغة وتنفيذ وكذلك عملية التحديث الجارية لهذه الرؤية وفقاً لنهج تشاركي يضم إلى جانب الحكومة كلاً من القطاع الخاص والمُجتمع المدني وكافة الشركاء، مع إيلاء اهتمام خاص بدور كل من الشباب والمرأة في تحقيق التنمية.
أولَت مصر كذلك اهتمامًا كبيرًا للتوطين المحلي لأهداف التنمية المُستدامة في المحافظات المصرية بهدف تعظيم الاستفادة من المزايا النسبية للمحافظات، ولتحقيق مفهوم «النمو الاحتوائي والمُستدام والتنمية الإقليمية المُتوازنة»، كإحدى الركائز الأساسية لرؤية مصر 2030، فنفذت مصر برنامج “تعميم وتسريع ودعم السياسات لتنفيذ أهداف أجندة التنمية المستدامة 2030” MAPS، بالتعاون مع الأمم المتحدة، وذلك لنشر مفهوم التنمية المُستدامة بالمحافظات، ودمج أهداف التنمية المُستدامة في خططها الاستثمارية المحلية.
إذ استهدفت تنظيمات الإرهاب رجال الدولة والمؤسسات والمجتمع بكامله، وكذا المقدرات القيمية والثقافية والمادية. فقد شهدت البلاد موجات إرهابية متعاقبة، بداية من الاغتيالات التي قام بها النظام الخاص التابع لتنظيم الإخوان الإرهابي في الأربعينيات والخمسينيات، مرورًا بإرهاب كل من “الجماعة الإسلامية” و”الجهاد” في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وصولًا إلى تدشين عدد كبير من اللجان النوعية والتنظيمات الإرهابية في أعقاب إسقاط حكم الإخوان في ثورة 30 يونيو 2013؛ إذ بلغ النشاط الإرهابي في هذا التوقيت تحديدًا مرحلة غير مسبوقة في تاريخ مصر، خاصة بين عامي 2014 و2015، ما ترتب عليه وضعها في قائمة الدول الأكثر تأثرًا بالإرهاب.
“على الرغم من اتخاذ الظاهرة الإرهابية في مصر أنماط وتوزيعات جغرافية متباينة في ضوء اختلاف سياقات ودوافع نشوئها، فإن نتائجها كانت واحدة في جميع مراحل تطورها. إذ كبدت الدولة المصرية خسائر متراكمة أثرت سلبًا على فرص التنمية، بعض تلك الخسائر كان مباشرًا مثل الأرواح البشرية، وتضرر المنشآت والبنى التحتية، وخروج رؤوس الأموال، والاستثمار في مجالات الأمن، ونفقات إصلاح ما تم تدميره. فيما كان البعض الآخر من الخسائر غير مباشر حيث تمثل في نفقات الدولة على الضحايا وعائلاتهم، وإعاقة فرص التنمية والاستثمار، ما أدى إلى عرقلة مسار التنمية، وتحويل موارد الدولة إلى مكافحة الإرهاب وعلاج التداعيات المترتبة عليه”.
لم تكن الحياة الاجتماعية والثقافية بمعزل عن الأضرار والخسائر التي خلفتها الظاهرة الإرهابية، بل كانت أكثر خطرًا وتأثيرًا؛ إذ سعت التنظيمات الإرهابية إلى اتباع استراتيجية منظمة تهدد تماسك المجتمع المصري عبر آلياتها المتطرفة في الاختراق والتكفير والتجهيل، من أجل تكريس رؤى وقيم متطرفة تقصي الآخر، وتضع قيودًا على حرية الفكر والإبداع، والأهم أن أولئك الإرهابيين استهدفوا على نحو خاص المرأة المصرية، وعبر تقييد سلوكها، في ضوء رؤيتهم المتطرفة لها كشخص منقوص الأهلية، وليست شريكًا أساسيًا في معركتي البقاء والبناء.
أن الحاجة باتت ملحة لتقديم معالجة معمقة حول ظاهرة الإرهاب، تنطلق من فهم لطبيعة وظروف وخصوصية المجتمع المصري، وفي الوقت ذاته تتجنب إطلاق التعميمات أو تكرار السرديات المعدة مسبقًا، لذلك يهدف المشروع البحثي إلى تقديم صورة دقيقة حول مخاطر الإرهاب والتطرف وأثرهما في عرقلة جهود الإصلاح والتنمية في مصر، ما قد يسهم في التوصل إلى تصورات فكرية وعملية شاملة عن تكلفة الظاهرة الإرهابية بمصر وطرق الحد منها.
تكمن الخطورة الحقيقة لجرائم الإرهاب في المنظومة الفكرية المتشددة والظلامية التي تبرره وتجعله عملا بطولياً في نظر الشخص الإرهابي والمحيط الذي يشجعه، وهو ما يمكن تسميته “بالحاضنة الفكرية للإرهاب”. هذه المنظومة الفكرية المتشددة والتكفيرية والتمييزية المتغلغلة في بعض قطاعات الثقافة المجتمعية لا تختفي بتوقف الإرهاب المادي. ويظل خطر الإرهاب المادي قائما -حتى ولو اختفى لبعض الوقت – طالما الأساس الفكري لم يزل متوفراً.
إذا كان الإرهاب المادي قد أزهق الأرواح الغالية من شهداء القوات المسلحة والشرطة والمدنيين، وكبد الاقتصاد المصري خسائر مادية فادحة وفرصا ضائعة، فان الإرهاب الفكري والمعنوي قد كلف المجتمع المصري الكثير من أمنه وسلامه وتماسكه الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، شكل تحدياً كبير لتقاليد وقيم المواطنة والحداثة للدولة الوطنية، ومعوقاً لمشروعات الإصلاح المؤسسي، والسياسي والتقدم الاجتماعي والتنموي.
بلغت الخسائر المباشرة في قطاع السياحة جراء العمليات الإرهابية حوالي 64 مليار دولار، والتي تم قياسها عن طريق المقارنة بين الإيرادات المتوقعة والإيرادات التي سجلها القطاع بالفعل. ومع إضافة، التكاليف المباشرة للحفاظ على القطاع عن طريق عملية الإحلال والتجديد، سنجد إنها بلغت نحو 3 مليارات دولار، علاوة على أجور العمالة المباشرة وغير المباشرة.
مع دراسة الارتباط بين السياحة والإيرادات الأخرى كقطاع الآثار ومحلات بيع القطع الآثرية، سنجد أن الخسارة بلغت نحو 40%. أما عن الخزانة العامة للدولة، تأثرت الدولة بفقدان جزء كبير من الحصيلة الضريبية من القطاع السياحي تبلغ (45 مليار دولار)، لتكون الخسائر النهائية في قطاع السياحة حوالي (207.5 مليار دولار).
بالانتقال إلى ميزان المدفوعات، توصل الفريق إلى تأثير مباشر ناتج عن التأثير على الإيرادات السياحية، مما أثقل كاهل الاحتياطي النقدي المصري في نهاية المطاف، فيما تمحور الأثر غير المباشر حول تراجع الاستثمارات الموجهة للاقتصاد المصري مما يؤثر أيضًا على النقد الأجنبي. وأخيرًا، ينبغي الإشارة إلى تأثير العمليات الإرهابية على معدلات البطالة في قطاع السياحة.
أما عن المحور الثاني، وهو الإنفاق العام، اتضح أن العمليات الإرهابية أثرت على معدلات الأنفاق العام على قطاعات مهمة كالصحة والتعليم وذلك بسبب انسحاب الاستثمارات الخاصة من تلك القطاعات، مما أجبر الحكومة على زيادة استثماراتها وإنفاقها في تلك القطاعات كبديل للاستثمار الخاص حتى تحافظ على المستويات المعيشية للمواطنين.
وفي النهاية، أدى زيادة الإنفاق إلى زيادة عجز الموازنة، ولهذا توصل البحث إلى الارتباط المباشر بين العمليات الإرهابية وعجز الموازنة، حيث يرتفع عجز الموازنة بشدة عقب وقوع أي حادث إرهابي بسبب تزايد الإنفاق على القطاعات المتضررة من العمليات الإرهابية. فعلى سبيل المثال، أثر حادث الأقصر على هيكل الموازنة العامة للدولة. حيث تحولت إلى العجز الجاري بدلًا من الفائض.
بالتحول صوب المحور الثالث وهو النمو الاقتصادي، تمثلت نتيجة البحث في تراجع معدلات النمو الاقتصادي عقب الحوادث الإرهابية بشكل مباشر بسبب تراجع الاستثمارات الأجنبية والخاصة، حيث تنسحب تلك الاستثمارات من البيئة المهددة أمنيًا وغير المستقرة.
وإجمالًا، بلغت الخسائر الإجمالية التي تكبدها الاقتصاد المصري نتيجة للعمليات الإرهابية خلال الفترة من 2011 إلى 2016، نحو 386 مليار جنيه بالأسعار الثابتة في الناتج القومي الإجمالي، ونحو 176 مليار جنيه بالأسعار الثابتة في الاستثمارات.
ومن ثم يُمكن القول أن العمليات الإرهابية أثرت بشكل مباشر على معدل الاستثمارات الخاصة ومن ثم معدل النمو وضياع وهدر جزء كبير من الناتج المحلي الإجمالي بسبب التأثير على عائدات السياحة، ومعدلات الفقر والبطالة. أذن، تعتبر العلاقة بين الحوادث الإرهابية ومعدلات الاستثمارات علاقة عكسية أي أن ارتفاع العمليات الإرهابية ستؤدي إلى تراجع معدل الاستثمارات ومعدل النمو الاقتصادي، فيما تعد العلاقة بين الحوادث الإرهابية والفقر والبطالة علاقة طردية، أي أن الفقر والبطالة يرتفعان بارتفاع العمليات الإرهابية.
وأخيرًا، فيما يتعلق بأسباب الإرهاب الاقتصادية، يُمكن توضيحها بغياب الشمول الاقتصادي، أو إقصاد الإفراد والمواطنين من نتائج العملية الاقتصادية وهو ما يساهم في بروز العوامل التي تساعد على ظهور الإرهاب وتنامي الظاهرة في المجتمع.