إن فتح مكة المكرمة حدث عظيم بكل المقاييس ، وهو من الوقائع الفاصلة في تاريخ الإسلام التي أعز الله فيها دينه ، ونصر فيها نبيه صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت مكة حتى رمضان من السنة الثامنة للهجرة أهم معاقل الكفر في بلاد العرب ، وغدت بعد هذا التاريخ المبارك الحصن الحصين للإسلام ، وأحد أهم قلاع التوحيد ونصرة الدين جنباً إلى جنب مع المدينة المنورة.
سبحانك ربي ما أعظمك ، تعلم ولانعلم وأنت علّام الغيوب ، شتان ما بين الخروج من مكة ومابين الدخول إليها ، لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ليلة الهجرة سراً يتنازعه شعوران أحدهما أنه يخرج من مكة ، وهي أحبُّ البلاد إلى قلبه ، كيف سيترك بلده ، وأهله وقومه ومسقط رأسه وميدان شبابه ، ومرتع صباه ، وشعور آخر أنه سيهاجر إلى بيئة ستحتضن هذا الدين بكل ود وحب وتدافع عنه بأرواحها وبكل ما تملك ، خرج من مكة مطارداً ولكن حين لحق به سراقة بن مالك قال لسراقة : كيف بك إذا لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه ، فقال سراقة : كسرى بن هرمز ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم .
وكتب له عهداً بذلك ، وسط استغراب سراقة وذهوله مما يقول هذا الرجل الصادق ، ولم تمض إلا ثمان سنوات حتى يدخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً منتصراً ، ويتحقق الجزء الأول من الوعد ويسلم سراقة الذي يقول: حتى إذا فتح الله على رسوله مكة وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه ، فلقيته بالجعرانة ، فدخلت في كتبة من خيل الأنصار ، وهم يقولون إليك إليك ، ماذا تريد ، حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته ، فرفعت يدي بالكتاب ، ثم قلت : هذا كتابك يارسول الله ، وأنا سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا يوم وفاء وبِرّ، أدنِهِ ، فدنوت منه ، فأسلمت… وفي عهد سيدنا عمر رضي الله عنه فتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بلاد فارس وأرسل سواري كسرى ومنطقته وتاجه ضمن الغنائم ، وبذلك يتحقق لسراقة وعد النبي صلى الله عله وسلم له كاملاً غير منقوص ، حيث ألبسه عمر رضي الله عنه سواري كسرى ومنطقته وتاجه .
إن إرهاصات فتح مكة بدأت من بعد موقعة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة حين اجتمعت قريش وغطفان واليهود على استئصال دين الإسلام ، ولكن الله سبحانه وعد حبيبه المصطفى بالنصر ، فكانت الدائرة عليهم جميعاً .
والأحزاب هم طوائف من الكفار والمشركين واليهود تحزَّبوا واجتمعوا لحرب سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومنهم: قريش، وقائدهم أبو سفيان، و غطفان ومن تابعهم من أهل نجد، وقائدهم عيينة بن حصن، وهوازن وقائدهم عامر بن الطفيل ، وانضم لهم اليهود من بني قريظة، ومضى على الفريقين قرابة شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله تعالى النصر وانهزمت الأحزاب، كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا )
وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه أن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: حين أجلى الأحزاب عنه: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم.
وفي السنة السادسة للهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، ففرحوا فرحاً شديداً، فرؤيا الأنبياء حق، وقد اشتد الحنين بالمسلمين من المهاجرين إلى تأدية النسك والطواف بالكعبة ودخول مكة، موطنهم الأول ومسقط رؤوسهم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة ليس معهم إلا سلاح الراكب لأن خروجهم لم يكن لقتال وإنما لأداء مناسك العمرة ، ولكن قريش حالت بينهم وبين دخول مكة ، واتفقوا على بنود حددوها ، وقبل بها الطرفان ، فيما سمي بصلح الحديبية وكان ذلك في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وكان من بنود الصلح أن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه، ودخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، ودخل بنو بكر بن عبد مناة من كنانة في عهد قريش ، وأن تمنع الحرب بينهم في هدنة تمتد لعشر سنين يأمن فيهم الناس ، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من قدم مكة من المسلمين حاجاً أو معتمراً، أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، وأن يعود المسلمون ذلك العام على أن يدخلوا مكة معتمرين في العام المقبل، وعدم الاعتداء على أي قبيلة أو على بعض مهما كانت الأسباب، وأن يرد المسلمون من يأتيهم من قريش مسلماً بدون إذن وليه، وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين.
فلما فرغوا من قضية الصلح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، غضب رسول الله و خشي عليهم أن يهلكهم الله ، فأشارت عليه أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها أن يقوم فينحر، ثم يحلق ، وإن رأوه يفعل فعلوا مثله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر، ودعا حالقه ؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وراحوا يتسابقون ليحلقوا رؤوسهم ، فعلا البِشْر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهر السرور على محياه الشريف ، وقد فصَّلت ذلك في كتابي (مستشارون حول الرسول صلى الله عليه وسلم ) في الجزء الرابع (أم سلمة ) الذي صدر سنة (1997) عن دار القلم العربي بحلب .
لقد رأى البعض أن في الصلح إجحافاً وإذلالاً للمسلمين، ومنهم عمر رضي الله عنه الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال صلى الله عليه وسلم :بلى
فقال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا ؟ ونرجعُ ولمَّا يحكم اللهُ بيننا وبينهم؟
فقال صلى الله عليه وسلم :يا ابنَ الخطابِ! إني رسولُ اللهِ ولن يُضيِّعني اللهُ أبداً.
قال: فانطلق عمرُ فلم يصبر متغيِّظاً ، فأتى أبا بكرٍ فقال: يا أبا بكرٍ! ألسنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ قال: بلى
قال: أليس قتلانا في الجنةِ وقتلاهم في النارِ؟
قال: بلى.
قال: فعلام نُعطي الدنيَّةَ في ديننا ، ونرجعُ ولما يحكمُ اللهُ بيننا وبينهم؟
فقال: يا ابنَ الخطابِ! إنَّهُ رسولُ اللهِ ولن يُضيِّعَه اللهُ أبداً.
قال: فنزل القرآنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالفتحِ. فأرسل إلى عمرَ، فأقرأَه إياهُ.
فقال: يا رسولَ اللهِ! أو فتحٌ هوَ؟ قال (نعم) فطابت نفسُه ، ورجع ،
وحين أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح ، وفيها جاءت البشارة الكبرى بفتح مكة ــ حيث قال الحق في محكم تنزيله في سورة الفتح : (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) ــ انقلبت كآبتهم فرحاً وسروراً، وأدركوا أن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام.
لما رجع المسلمون من الحديبية ، وقد صدّهم المشركون عن البيت الحرام، اتفق الطرفان – المسلمون والمشركون- على أن يعود المسلمون عن مكّة عامهم هذا ، ثمّ بعد سنة وبنفس الميعاد يعودون إلى مكّة فيعتمرون.
كان من أهداف هذه العمرة هو تصديق رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم في دخول المسلمين مكّة لأوّل مرة بعد خروجهم منها مهاجرين ؛ إذْ ظنّ المسلمون أنّ رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم هي يوم الحديبية، ولكنّهم لمّا عادوا ولم يدخلوا مكّة اتّفقوا على أن يعودَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى مكة عامهم المقبل فيعتمرون، وفي ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحاً كثيفاً، وأخذ عُدَّةَ حربٍ كبيرةً تحسُّـباً لأي خيانة من قريش، ولكنه كان ينوي دخول مكة ـ كما اتفق مع أهلها العام الماضي- بسلاح المسافر فقط.
ورأت عيون قريش الأسلحة فَفَزِعَتْ، وأرسلت وفداً يستوضح حقيقة الأمر، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها؟! كان من الممكن أن يستغل رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع قريش والهزيمة النفسية التي اعترتها ، وكان من الممكن أن يستغلَّ اقترابه من مكة إلى هذه الدرجة، وهو في ألفين من رجاله مدجَّجِينَ بالسلاح، كان من الممكن أن يستغلَّ ذلك كله في غزو مكة بحُجَّة استرداد الحقوق، أو بحُجَّة المعاملة بالمثل جزاء حصار الكفار للمدينة في غزوة الأحزاب؛ كان من الممكن كلُّ ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، لأن المسلمين عند عهودهم مهما كانت الظروف؛ ولذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقة: «لا نَدْخُلُهَا إِلاَّ كَذَلِكَ» أي: كما اتفقنا ، ونحن على عهدنا.
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح خارج مكة، وترك معه محمد بن مسلمة في مائتي فارس لحمايته، ودخل هو وبقية الصحابة لأداء العمرة بالسيوف في أغمادها كما وَعَدَ، وكان الاتفاق على أن تُخْلِيَ قريشٌ مكة بكاملها للمسلمين مدَّة ثلاثة أيام كاملة لأداء مناسك العمرة، وقد تمَّ ذلك، ووقف المشركون على رؤوس الجبال المحيطة يُشاهدون مناسك العمرة طِبْقاً للشرع الإسلامي.
وتمَّت العمرة المباركة، وارتاحت قلوب المسلمين برؤية الكعبة والطواف حولها، ومرَّت الأيام الثلاثة بسرعة، وجاء سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى موفدين من قِبَل قريش طالبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخروج من مكة، فاستجابوا لهم .
نعود إلى معنى الحلف الذي دخلته خزاعة مع الرسول ، إنه بلغة العصر الآن “اتفاقية دفاع مشترك” بين دولتين، بمعنى أنه إذا حدث اعتداء على إحدى الدولتين يكون اعتداء على الدولة الأخرى، ويجب على هذه الدولة بموجب هذا الحلف أن تنصر الدولة التى وقع عليها الاعتداء.
وهكذا كان التحالف عند العرب يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر ، إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أيِّ اعتداء.
قال ابن إسحاق : فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلُّوا من خزاعة ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وشكا له فعلة قريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نُصِرتَ يا عمرو بن سالم.
وحاولت قريش أن تعالج هذا الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه ؛ حيث انطلق زعيمها “أبو سفيان بن حرب” إلى المدينة المنورة طلباً في العفو عن هذا الخطأ الفادح، وتجديداً للهدنة، واستشفع بكبار المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ، لكن علي بن أبي طالب لخص الموقف بقوله لأبي سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه”؛ فعاد أبو سفيان صفر اليدين إلى قريش واتُهِم بأن المسلمين تلاعبوا به.
كان فشل سفارة أبي سفيان لا يعني إلا شيئاً واحداً ألا وهو الحرب، وجهز المسلمون جيشاً ضخماً بلغ قوامه عشرة آلاف مقاتل، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم السرية الشديدة حتى يحقق عنصر المفاجأة لكفار مكة ، ولم تكن آنذاك وسائل اتصال أو تواصل ، ومن تسلسل الأحدث ، ونقض قريش للعهد ، ومجيء عمرو بن سالم الخزاعي المدينة شاكياً قريشاً ، وكذلك قدوم أبي سفيان ، علم حاطب بن أبي بلتعة أن هذا الجيش لابد أن يكون قاصداً مكة لفتحها ، فقرر إبلاغ قريش بما اعتزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وباء تدبيرحاطب بالفشل ، وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أحد المشاركين في بدر .
وهذا الانتصار العظيم زاد النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً، فدخل مكة وهو يركب ناقته، ويقرأ سورة الفتح، وكان يطأطئ رأسه حتى لتكاد تمس رحله شكراً لربه تعالى وخضوعاً لعظمته ، ولما كان الغد من يوم الفتح قام صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم.
قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.
قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ــ أي الذين أُطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسرواــ ولما فتح الله سبحانه وتعالى مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم : أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم.
ولقد كان لفتح مكة أثر كبير في نفوس العرب ، فقد شرح اللّه صدر كثير منهم للإِسلام ، وصاروا يدخلون في دين اللّه أفواجاً ، قال تعالى في سورة النصر : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّه والفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِين اللّه أَفْوَاجا. فَسَبحْ بِحَمْدِ رَبكَ واسْتَغْفرْه إِنَّهُ كَانَ تَواباً .