يختلف مفهوم الأمن الغذائى للدول عن الأفراد، فهو بالنسبة للأفراد أن يكون قادرا على الحصول على احتياجاته من السعرات الحرارية من الغذاء الآمن الذى يبقيه صحيحا وقادراً على العمل للإنفاق على نفسه وأسرته ولو حتى من مصادر نباتية. أما الأمن الغذائى للدول فهو توفير الدولة احتياجات شعبها من الغذاء الصحى سواء من الأسواق المحلية أو بالاستيراد وتوفير الأمن اللازم للوصول إلى أسواق الغذاء دون مخاطرة. الحديث عن طموحات تحقيق الاكتفاء الذاتى مشروع ولكنه غير قابل للتطبيق حتى فى أغنى الدول والتى تصل مساحتها إلى أكثر من عشرة أضعاف مساحة مصر مثل أمريكا وروسيا والصين والبرازيل ويمتلكون ومعهم إندونيسيا أكثر من 50% من المياه العذبة فى العالم. ومن المستحيل لأى دولة أن تحقق الاكتفاء الذاتى من مختلف أنواع الغذاء السابقة لأنه لا توجد دولة تمتد من المناطق الباردة إلى المدارية الجافة والحارة إلى خط الاستواء، ولعل هذا لضمان التعاون وتبادل السلع وربط المصالح الاقتصادية والحد من الصراعات.
المياه سواء كانت جارية أو مطرية هى العامل المحدد للزراعة فى العالم حيث تمثل الزراعة على الأمطار 80% من زراعات العالم بينما تمثل الزراعات المروية 20% فقط فى المناطق الجافة والصحراوية الشحيحة الأمطار. وتتطلب الزراعة على الأمطار الاستمرارية والكثافة، أى الاستمرارية طوال موسم نمو النباتات، والكثافة فى الهطول بحيث تشبع التربة الزراعية لأقصى عمق تصل إليه الجذور وألا تكون مجرد بلل لسطح التربة فقط. ولهذا تعتمد مصر تماما على الزراعات المروية نتيجة لكونها جزءا من الصحراء الإفريقية الكبرى التى تتسم بالجفاف والحرارة العالية وبالتالى تعتمد على مواردها المائة الجارية فقط. وتبلغ الموارد المائية المصرية نحو 62 مليار م3 من المياه الجارية منها 55.5 مليار م3من نهر النيل ونحو 5.5 مليار من المياه الجوفية و1.3 مليار من الأمطار تسقط فوق أراضى الدلتا الزراعية وتوفر قدرا من مياه الرى، وباقى الأمطار تسقط على مناطق صحراوية غير مأهولة بالسكان أو على شكل سيول ضارة. وبذلك يكون نصيب الفرد من المياه المتجددة نحو 600 م3 فقط فى نطاق الفقر المائى، ولكننا نرفعها بإعادة استخدام نحو 20 مليار م3 من مياه المخلفات المعالجة أو المخلوطة مع مياه الرى ليكون إجمالى مواردنا المائية المستخدمة نحو 82 مليار م3 فيرتفع نصيب الفرد إلى نحو 800 م3 فى السنة وهى أيضا فى نطاق الفقر المائى. وتحت ظروف الرى بالغمر السائد فى مصر يستهلك الفدان نحو ستة آلاف م3 فى السنة. ويبلغ الاستهلاك المنزلى والمحليات والحفاظ على البيئة نحو 10 مليارات م3 والصناعة 3 مليار 3 فيتبقى للقطاع الزراعى نحو 69 مليارات م3 تكفى لرى نحو 11 مليون فدان بالغمر المعتاد ونحو 14 مليون فدان بالرى بالتنقيط والرش، بخلاف ما أضيف إلى مواردنا المائية من تحلية مياه البحر وتبطين الترع والتى يمكن أن تضيف نحو 5 مليارات م3 تكفى لرى مليون فدان إضافية ولكن يمكن اعتبارها فواقد بالبخر وغيره خلال شبكة توصيل المياه.
هذا الأمر يوضح أن التوسع الأفقى لزيادة الرقعة الزراعية المصرية فى المشروعات القومية محسوب تماما وليس فوق نطاق ما نمتلكه من المياه ويهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من إنتاج الغذاء وتوفير قدر مقابل مما نستورده وتقليل الضغط على رصيدنا من العملات الأجنبية المخصص لاستيراد الغذاء بمتوسط 15 مليار دولار سنويا أرتفع بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار البترول فى العام الماضى إلى 30 مليار دولار فتسبب فى فجوة دولارية عانينا منها بسبب الحجم الكبير لما نستورده من الغذاء بالدولار. أما التوسع الرأسى فيعنى زيادة الإنتاج من الحقول المزروعة حاليا وزيادة إنتاجية وحدة المياه ووحدة التربة وحسن إدارة الموارد المائية والأرضية ومن الممكن أن يحقق زيادة فى الإنتاج الزراعى بنحو 25% على الأقل من إجمالى رقعتنا الزراعية التى تقترب من 9.5 مليون فدان بما يعادل إنتاجية نحو 2.5 مليون فدان وكأننا استصلحناها وأضفناها إلى الرقعة الزراعية ونوفر معها نحو ربع مليون جنيه تكاليف استصلاح الفدان الواحد وتوصيل المياه وحفر الآبار وشق الطرق ونقل المحصول بما يعادل توفير نحو ستين مليار جنيها تكاليف استصلاح وتحقيق مبلغ مماثل كزيادة سنوية فى الإنتاج الزراعى وتستمر مستقبلا. هذا الأمر يتطلب توفير اعتمادات مالية للبحث العلمى الزراعى لإنتاج التقاوى والأصناف العالية الإنتاجية من مختلف صنوف الغذاء وإضافة معدلات الأسمدة التى تطبق عالميا، وتحديث تقنيات الزراعة ورفع كفاءة الرى وكفاءة نقل المياه وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى من مبيدات ومخصبات وتقاوى ثم حسن إدارة الموارد الأرضية والمائية.إن شق ترعة مشروع الدلتا الجديدة للمياه المعالجة شأنه شأن ترعة السلام فى سيناء وبنفس الطول ومثل ترعة توشكى فى جنوب الوادى، ومثل ترعتى النوبارية والصالحية الجديدة ومن قبلها ترعة الإسماعيلية وليس نهرا فى الصحراء يهاجمنا به البعض فى الداخل والخارج مستغلين تصنيفنا ضمن دول الشح المائى ومتناسين أنه لا سبيل للتوسع الزراعى فى مصر إلا فى الصحراء لأننا نستفيد فعليا من كامل الأراضى الزراعية السمراء وأن زراعة الصحراء شأن عالمى ويوفر حماية كبيرة لأراضينا الزراعية من زحف الصحراء، بالإضافة إلى كونه تعويضا عما فقدناه من أراضينا الزراعية الخصبة فى الوادى والدلتا بسبب التحضر والزحف العمرانى والزيادة السكانية وتوسعة الحيز العمرانى فى الريف فقدنا معه 2.5 مليون فدان خلال السبعين عاما الماضية. التوسع الأفقى والرأسى فى القطاع الزراعى هو تأمين لمستقبل أفضل للأمن الغذائى للمصريين حاضرا ومستقبلا.