كتبت فى هذه الزاوية الثلاثاء الماضى نبذة عن كتاب المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة رحمه الله ” تهذيب التراث الإسلامى”، تناولت فيها تعريفه للتراث الإسلامى الذي عاشت عليه الأمة وأضافت إليه وطورته في مختلف ميادين العلم والمعرفة والفكر والآداب والفنون، منذ ظهور الإسلام وحتى العصر الذي نعيش فيه.
ونقلت عنه أن هذا التراث ينقسم إلى قسمين كبيرين : القسم الأول تراث مقدس معصوم، لايجوز التدخل فيه، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المتواترة، قطعية الثبوت، والسنة العملية التى تجسدت فى أرض الواقع، وشهدت عليها الأمة، ومارستها جيلا بعد جيل، وهذا التراث المقدس – الوحي والبيان النبوي للوحي – لا يسمى فكرا، لأن الفكر عملية بشرية خالصة.
أما القسم الثانى فهو ميراث الإبداع البشرى الذى جاء ثمرة للتفكر والتدبر والتعقل والتأمل، مكونا مجموعة من المعارف الإنسانية المتراكمة فى قضايا الدين والدنيا على حد سواء، وإذن فالشريعة وضع إلهي ثابت، بينما الفقه اجتهاد بشري متجدد، وإن كان محكوما بإطار الشريعة وقواعدها.
كان هدفى من هذه النبذة أن أبرهن على أن الفكر الإسلامى الصحيح هو الذى ابتدع فكرة (نقد التراث) أو ( تهذيب التراث)، قبل صعود الموجة العلمانية الحالية التى تسخر من التراث عن حقد وجهل، وتريد أن تهيل عليه التراب كله، فلا تدع منه شيئا، حتى تقطع حاضر الأمة عن جذورها فيسهل اجتثاثها.
وقد أشدت فى هذا الصدد بقول الدكتور عمارة إن ” إبداع الأمة الإسلامية الذي كون تراثنا الإسلامي هو فكر غير مقدس ولا معصوم، ومن ثم فقد دخل جميعه في باب الاجتهاد الذي لا عصمة له، والذي تجوز مراجعته، بل قد تجب هذه المراجعة لهذا اللون من التراث في كثير من الأحيان”، وأشدت أيضا بدعوته الجريئة إلى ” نهضة فى تهذيب التراث، لترشيد فكرنا الإسلامى المعاصر، ولإقامة المصالحة الحقيقية بين هذا التراث وبين حقائق الوحى الإلهى المعصوم من جانب، وبين الحقائق العلمية من جانب آخر”.
وكنت أظن أن هذه الإشارة كافية لبيان الفكرة التى قصدتها، لكن كثيرا من الأصدقاء طالبونى بالمزيد من الإيضاح حول طبيعة “تهذيب التراث”، كيف كان وكيف يكون؟ فالقضية فى نظرهم ذات حساسية خاصة، وليس من السهل تخيل إمكانية الخوض فيها أو التعرض لها من خلال مقال صحفى مختصر، حينئذ كان علي أن أعود ثانية إلى كتاب الدكتور عمارة، فعنده الإجابة، وفيه الكفاية.
وحسبنا فى ذلك أنه يقر ابتداء بأن تراثنا الإسلامي، منذ أن استوى فن التدوين في حضارتنا قبل أكثر من ألف عام، عرف فنا من فنون تحقيق التراث، هو فن تهذيب هذا التراث، أي مراجعته، وإعادة إخراجه في صورة أفضل، سواء من حيث الشكل أو المضمون، والذين يراجعون فهارس المخطوطات العربية الإسلامية – التي تعد بالملايين – وعناوين الكتب التي طبعت من هذه المخطوطات، سيجدون آلافا من عناوين الكتب التي هي تهذيب لكتب كتبها السابقون.
وفي أول معجم رصد عناوين المطبوعات التي طبعتها المطابع العربية في عصرنا الحديث ــ معجم المطبوعات العربية والمعربة ليوسف إليان سركيس المتوفى1932م – وهو الذي رصد عناوين المطبوعات حتى عشرينيات القرن العشرين، نجد العديد من العناوين التي تؤكد على هذه الحقيقة، حقيقة أن تهذيب التراث فن قديم وأصيل، فهناك كتب (تهذيب الأسماء واللغات)، و(تهذيب إصلاح المنطق)، و(تهذيب التاريخ الكبير) لابن عساكر، و(تهذيب المنطق والكلام)، و(تهذيب الوصول إلى علم الأصول)، و(اللباب في تهذيب الأنساب) إلخ إلخ.
كما نجد فيما طبع بعد هذا التاريخ (تهذيب سيرة ابن هشام)، و(تهذيب الكامل في اللغة والأدب)، و(تهذيب الصحاح)، و(تهذيب الأغاني)، وغيرها الكثير والكثير في هذا الفن من فنون التعامل مع التراث.
بل إننا إذا نظرنا في كتب السنة النبوية الشريفة، سنجدها جميعها قد قامت على فن التهذيب والغربلة والاختيار من بين المرويات التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فصحيح البخاري – وهو أصح كتب الحديث النبوي – قد جاء ثمرة لاجتهاد الإمام البخاري في الفرز والغربلة والنقد والفحص والتمحيص، وفق قواعد الرواية والدراية – كانت حصيلته نحوا من ثلاثة آلاف حديث – إذا استثنينا المكرر – استخلصها البخاري من بين أكثر من ستين ألفا من المرويات التي نسبت إلى رسولنا الكريم، وذلك هو عين التهذيب لهذه الآلاف المؤلفة من المرويات.
وإذا كان الإمام السيوطي قد جمع في (الجامع الكبير) مئات الألوف من الأحاديث، وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل قد جمع في (مسنده) نحوا من ثلاثين ألف حديث، فإن الإمام مالك بن أنس قد وقف في (الموطأ) عند مئات من الأحاديث فقط لا غير، وتلك كلها نماذج لتفاوت الاجتهادات في الغربلة والفحص والنقد والتدقيق – أي التهذيب – للمرويات.
ولذلك، وجدنا منهج التهذيب – أي الاختيار – واضحا عند علماء السنة النبوية في التعامل مع الكتب التي جمعت مروياتها، فالبخاري – مثلا – مقدم على غيره من الصحاح والمسانيد، وما اتفق عليه الشيخان – البخاري ومسلم – له مكانة متميزة على ما لم يتفقا عليه، ثم جاءت مصنفات حديثية كثيرة اختارت واصطفت من كتب الصحاح، ومن أشهرها في عصرنا الحديث (صفوة صحيح البخاري) للعلامة الشيخ عبدالجليل عيسى، و (المنتخب من السنة) الذي أنجزه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وقد حدث هذا التهذيب والاختيار والغربلة والمراجعة أيضا لكثير من كتب تفسير القرآن الكريم، واتخذ ذلك – أحيانا – شكل (الخلاصة)، و(الصفوة)، و(الاختصار).