تعمدت الانتظار والتأني إلى ما بعد “رمضان” كي يكون تقييمي موضوعيًا وأكثر اقترابًا من الدقة لمستوى الدراما المصرية التي جرى تقديمها خلال الشهر الكريم.. ولا أكون مبالغًا قط إذا رأيت أن الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لم تحصل على شهادة نجاحها فحسب بتوقيع النقاد والمختصين في الدراما التليفزيونية، تؤيدهم في ذلك ردود الفعل الإيجابية لمتابعين بالملايين، داخل وخارج الحدود المصرية، وهو ما لمسناه بشكل واضح على “السوشيال ميديا”، ولكن بعدًا آخر أهم أتصور أنه أضاف كثيرًا إلى هذا النجاح.
“المتحدة” وبوعي شديد لم تغِب عنها أولوية وخصوصية دورين ملقيين على عاتقها، ولزوم أدائها لهما على الوجه فوق الأمثل، أولهما الذهاب بعيدًا بالريادة الدرامية المصرية عن كل المنافسين، لتظل “القاهرة” على مقعد الصدارة المحجوز باسمها لسنوات طويلة مضت، وبمزيد من الاطمئنان.. والثاني، هو استثمارها هذه القوة الناعمة في طرح قضايا اجتماعية جادة، وذات أهمية قصوى، ما يجعل للدراما نفسها “قيمة مضافة” على مستوى التنمية المستدامة فيما يخص وعي وثقافة المصريين.
المعادلة الصعبة التي استطاعت “المتحدة” أن تحلها بمنتهى السلاسة، والسؤال الذي لا يحصل عادة على إجابة كاملة، ولكنها كان بمقدورها أن تجيب عليه بنفس القدر من السهولة، تمثَّلا في التوازن المحسوب والمطلوب بين نجاح العمل الدرامي على المستوى الجماهيري، وضعًا في الاعتبار كذلك الناحية الاقتصادية المقصود بها الربح المالي مقارنة بتكاليف الإنتاج، وفي الوقت نفسه أن يحمل المسلسل رسالة ذات مغزى ومعنى وهدف، ولها مردودها الاجتماعي والأخلاقي الجمعي.
هي في مجملها مساحة كبيرة من النجاح، حق “المتحدة للخدمات الإعلامية” أن تفخر بأنها استطاعت أن تبسط سيطرتها الكاملة عليها، وهو ما يستوجب، من وجهة نظري، ليس فقط الإشارة إليه، ولكن تسليط الإضاءة عليه، وأن نشد معًا على ساعد الشركة كي تواصل دورها، وتستكمل رسالتها.
صحيح أن العلامة الكاملة في تقديري نالها مسلسل “الكتيبة ١٠١”، والذي استقى أحداثه من وقائع حقيقية لاستبسال “ولاد مصر” في التصدي للتنظيمات التكفيرية والإرهابية في شمال سيناء.. لكن باقي الأعمال كان لها أيضًا حظًا وافرًا من الجدارة الفنية، وتركت بصمتها، ووصل صداها لنسبة كبيرة من المشاهدين، برغم الزحمة الدرامية الرمضانية المعتادة.
أذكر هنا على سبيل المثال، لا الحصر مسلسل “مذكرات زوج”، والذي ساقت حكايته المشاهدين على مدار ١٥ حلقة – تم غزلها دراميًا بشكل أكثر من رائع – إلى نهاية مُوظَّفة اجتماعيًا باتجاه تعزيز تماسك الأسرة، ومن ثَمَّ سلامة وعافية المجتمع ككل، إذ اعتنت فكرة العمل بأهمية عبور الزوجين الآمن للمشاكل التي تعترض طريقهما، وبعضها قد يهدد سفينة الأسرة بالغرق ما لم يتحلَّ كلاهما بالحكمة، ويديران سويًّا ويدًا بيد ما يقابلهما من أزمات برشد يطرح جانبًا التعامل معها برعونة، ويفكر على مهل في عواقبها، ويدرس تبعاتها، وينشغل أول ما ينشغل بكيفية تخطيها.
لعل مسلسل “رسالة الإمام” يستحق هو الآخر إشادة تليق به.. نحن هنا أمام ميزانية كبيرة لم تبخل على إنتاج عمل درامي بهذا الحجم.. وبراعة إخراج كان على مستوى المطلوب منه وزيادة.. علاوة على توظيف مبهر لتقنيات التصوير الحديثة.. و”لوكيشن” اهتم بالتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، وناسب زمان الأحداث بحرفية واضحة، وأضفى عليها واقعية لم تجعلنا نشعر ولو للحظة أنه دخيل على الحكاية.
لفتت نظري أيضًا “الشطارة” في انتقاء الممثلين المناسبين، والتي لم تقف عند الأبطال، أو أصحاب الأدوار الثانية والثالثة، لكن العناية وضحت حتى على كل ما يخص “الكومبارس”، وإدارتهم بحنكة.
تُضاف إلى ما سبق، وتسبقه في الأهمية، تلك الرسالة التي حملها الإمام، وحملها من خلاله المسلسل نفسه.. فكرة تجديد الخطاب الديني، وعدم الوقوع في أسر فكر أو مذهب أو منهج بذاته، والتأكيد على أن باب الاجتهاد يظل مفتوحًا، بما يلائم طبيعة كل عصر، طالما تصدى له مَن هم أهله، وامتلكوا أدواته، وحكمته، ورحمته.
وإذا كنت قد وددت لو أن مساحة المقال تسع الكلام عن كل الأعمال الدرامية التي أنتجتها “المتحدة”، وأهدتها كلا المشاهدَين المصري والعربي في “رمضان”.. فما أودُّه بشدة وبحق، أن يحذو حذوها باقي المنتجين بدراما هادفة من هذا النوع، وعلى مدار العام، وأن يسير خلفها الجميع على طريق السينما النظيفة الواعية، وحبذا لو كان لجمهور المسرح نصيب كبير من إنتاجها، فما أحوجنا لفن يليق باسم مصر، ويضيف إلى المصريين.
في الختام.. نرفع القبعة ل “المتحدة”.. كانت عند حُسن الظن بها.. وحققت في زمن قياسي فوق ما توقعناه لها ومنها.
mhamid.gom@gmail.com