أعلن قتيبة سنة 96هـ النفير العام ، لأنه قرر العبور من فرغانة إلى إمبراطورية الصين ، بأمر أمير العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي خاطب قتيبة وابن القاسم بقوله : ( أيكما سبق إلى الصين ، فهو عامل عليها وعلى صاحبها ) ، وكما جاء في البداية والنهاية : “ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين ، حتى يفتحها” .
أعلن قتيبة التعبئة العامة ، وقال : “لا يجوزن أحد – نهر جيحون عائداً إلى مرو – إلا بجواز” ، أي بإذن رسمي خطي يؤهله العودة من ما وراء النهر إلى مرو ، ومضى قتيبة وجنده إلى فرغانة ، ومنها إلى كاشغر ، وهي أدنى مدائن الصين.
لقد فتح قتيبة مدينة كاشغر ، وعبر بذلك نهر سيحون ، النهر الذي يشكل الحد الطبيعي الفاصل بين الفرس والترك وبين المغول ، وعبور قتيبة له كان أول تحد مباشر من المسلمين للشعوب المغولية .
طلب إمبراطور الصين “يوانغ جونغ ” بعد فتح كاشغر وفداً يمثل قتيبة ، وكتب إلى قتيبة كتاباً جاء فيه : (ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ، ونسائله عن دينكم) .
فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً من وجهاء القبائل ، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس ، بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه ، فكلمهم قتيبة وفاطنهم فرأى عقولاً وجمالاً ، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر ، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم ، ودواب يركبونها .
وكان “هبيرة بن المشمرج الكلابي” مفوهاً بسيط اللسان فقال قتيبة : يا هبيرة كيف أنت صانع ؟
قال : أصلح الله الأمير ، قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به .
قال : سيروا على بركة الله وبالله التوفيق ، لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد ، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم ، وأختم ملوكهم ، وأجبي خراجهم .
سار الوفد ، وعليهم “هبيرة بن المشمرج” ، فلما قدموا أرسل إليهم إمبراطور الصين يدعوهم ، فدخلوا الحمام ثم خرجوا فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل (الثياب الذي يلبس تحت الدروع) ثم مسوا الغالية (نوع من الطيب) ، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية ، ودخلوا عليه ، وعنده عظماء أهل مملكته ، فجلسوا فلم يكلمهم الإمبراطور ولا أحد من جلسائه فنهضوا ، فقال الإمبراطور لمن حضره : كيف رأيتم هؤلاء ؟
قالوا : رأينا قوماً ما هم إلا نساء ، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا اشتهى النساء .
فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم : ارجعوا ، فقال لأصحابه : كيف رأيتم هذه الهيئة ؟
قالوا : هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى ، وهم أولئك .
فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم ، فشدوا عليهم سلاحهم ، ولبسوا البيض والمغافر ، وتقلدوا السيوف ، وأخذوا الرماح ، وتنكبوا القسي ، وركبوا خيولهم ، وغدوا ، فنظر إليهم إمبراطور الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة ، فلما دنوا ركزوا رماحهم ، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين ، فقيل لهم قبل أن يدخلوا : ارجعوا ، لما دخل قلوبهم من خوفهم . فانصرفوا فركبوا خيولهم ، واختلجوا رماحهم ، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها ، فقال الإمبراطور لأصحابه : كيف ترونهم ؟
قالوا : مارأينا مثل هؤلاء قط .
فلما أمسى أرسل إليهم الإمبراطور ، أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلاً ، فبعثوا إليه هبيرة ، فقال له حين دخل عليه : قد رأيتم عظيم ملكي ، وإنه ليس أحد يمنعكم مني ، وأنتم في بلادي ، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي ، وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم .
قال : سل .
قال : لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث ؟
قال هبيرة : أما زينا في يومنا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم ، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا ، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا ، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا ، قال الإمبراطور : ما أحسن ما دبرتم دهركم ..!! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف ، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه ، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه .
قال له هبيرة : كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في دمشق (بلاد الشام) وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها وغزاك ، وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ، فلسنا نكرهه ولا نخافه .
فقال إمبراطور الصين : فما الذي يرضي صاحبك ؟
فقال هبيرة : إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ، ويختم ملوككم ، ويعطى الجزية .
فقال إمبراطور الصين : فإنا نخرجه من يمينه ، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ، ونبعث إليه بجزية يرضاها .
ثم دعا بصحاف من ذهب فيها تراب ، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم ، فساروا فقدموا بما بعث به ، فقبل قتيبة الجزية ، وختم الغلمة وردهم (المقصود “بالختم” وضع الأطواق في الأعناق من تقاليد الإستسلام) ، ووطئ التراب .
وبعد فتح كاشغر جاء إلى قتيبة خبر موت الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين ، وتولي أخيه سليمان بن عبدالملك مكانه ، فانكسرت همته لذلك ، وعاد أدراجه ، فقتل في فرغانة .
.