جاءت الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على غزة مباغتة دون مقدمات، لم يسبقها كالمعتاد تهديد ووعيد، غير أن حكومة بنيامين نتنياهو رأت أنها الحل الأمثل لأزمتها الداخلية، فلم تكن أمامها وسيلة لرأب الصدع الذى هدد بقاءها، وأحدث انقساما هائلا فى المجتمع الإسرائيلى، إلا توجيه ضربات صاروخية إلى غزة، واستئناف الاغتيالات بحق الفلسطينيين، وإشعال المنطقة من جديد، رغم ضغط الحليف الأمريكى من أجل التهدئة.
لقد وجد نتنياهو أن حكومته معزولة، بعد الرفض الواسع لمشروع القانون الذى قدمه إلى الكنيست بإجراء تعديلات جوهرية على نظام المحكمة العليا، تضمن له التدخل فى شئونها، حتى يتسنى له الإفلات من قضايا الفساد التى تلاحقه وزوجته، وكانت نصيحة وزير الأمن القومى (الإرهابى إيتمار بن غفير) أن يقوم نتنياهو بقفزة هائلة ومباغتة إلى الأمام عن طريق ضرب غزة، واغتيال مجموعة من قادة المقاومة المسلحة، وخلق واقع جديد يفرض على الإسرائيليين أن يتوحدوا، ومن هنا بدأت إسرائيل الحرب فجر الثلاثاء الماضى، وقتلت حتى الآن أكثر من 33 فلسطينيا، من بينهم 6 قيادات من سرايا القدس ( الجناح العسكرى لحركة الجهاد الإسلامى)، كما أصابت أكثر من 120 فلسطينى بإصابات بالغة.
كما رأت حكومة نتنياهو أن هذه القفزة الهروبية سوف تغطى أيضا على الفعاليات المقررة لإحياء الذكرى الأولى لاغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التى تحمل الجنسية الأمريكية، والتى قتلها الجيش الإسرائيلى عمدا أثناء قيامها بتغطية عملية اقتحامه لمخيم جنين فى الضفة الغربية فى 11 مايو 2022، وارتكاب العديد من الجرائم فى حق المدنيين الفلسطينيين، ومن أهم بنود هذه الفعاليات المقررة جمع توقيعات فى الكونجرس الأمريكى لإعادة فتح ملف الجريمة ومعاقبة الجناة.
وكان التصور السائد لدى حكومة نتنياهو أن الضربات الصاروخية الكثيفة ستحقق أهدافها بدون خسائر، وأن سرايا القدس التى أذهلتها الصدمة لن تقوى على الرد، كما أن الفصائل الأخرى ـ خاصة حماس ــ لن تجرؤ على المشاركة فى أى اشتباك مسلح، خوفا من اتساع نطاق المواجهة، وساعد على تعزيز هذا التصور مرور أكثر من 36 ساعة دون رد من الفصائل، لم تنقطع خلالها الغارات الجوية الصاروخية على أهداف مدنية فى مدن القطاع .
لكن سرعان ما انطلقت زخات الصواريخ من غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بها، وبعض المدن الإسرائيلية فى الشمال والشرق، بل وصلت صواريخ المقاومة لأول مرة إلى مشارف مدينة القدس المحتلة، التى تعتبرها إسرائيل عاصمة موحدة لها، وهو تطور نوعى يمثل مكسبا مهما للمقاومة، التى تكشف فى كل مواجهة عسكرية عن امتلاك قدرات مضاعفة، رغم الحصار الكثيف الذى يحيط بها من كل جانب.
وهنا تبرز قضية اختلاف معايير المكسب والخسارة، والنصر والهزيمة، بين إسرائيل والمقاومة، حيث يرى نتنياهو أن تدمير المبانى وقتل قادة الفصائل والمدنيين يشكل ضغطا على أعصاب المقاومة، يقلل من قدراتها ومن شعبيتها، لكنه يفاجأ بما هو عكس ذلك، إذ يلتف الشعب الفلسطينى حول المقاومة فى ساعة الخطر، وتزداد أسر الشهداء إصرارا على التحدى، وترى أن الشهادة وسام على صدرها، وأنها لم تخسر شيئا، إذ مادامت الأرض محتلة والتهديد قائم فكل ابن من أبناءها هو مشروع شهيد يمشى على الأرض، وفى العموم فإن العنصر البشرى يعد المخزون الاستراتيجى للمقاومة، الذى لاينضب.
أضف إلى ذلك أن المواجهة المسلحة مع العدو تتيح فرصة لمزيد من تجربة الصواريخ محلية الصنع، والتدريب العملى للعناصر البشرية، ومعالجة جوانب النقص، ومن هنا فإن كل مواجهة تسجل تطورا إيجابيا مطردا للسلاح الفلسطينى، وهو بالطبع سلاح بدائي لايقارن بآلة الحرب الرهيبة التى تمتلكها إسرائيل، لكنها إرادة المقاومة لشعب احتلت أرضه واتهكت مقدساته.
أما على الجانب الإسرائيلى، فإن مجرد إطلاق صفارات الإنذار فى المستوطنات والمدن التى كانت بعيدة عن المواجهة فى الماضى صارت تعنى مباشرة توقف حركة الحياة بأكملها، حيث تتعطل المدارس والمصالح الحكومية، وتغلق المحلات أبوابها، وتخلو الشوارع من المارة، ويبيت السكان فى الملاجئ، ومقتل يهودى واحد يعنى ـ طبقا للبيانات الرسمية ـ عودة مائة يهودى إلى موطنهم ومسقط رأسهم، فيما صار يعرف بالهجرة العكسية من إسرائيل، وهذا هو أعظم تهديد وجودى لدولة إسرائيل.