منذ أن خرجت علينا مقولة إن هناك أعدادًا كبيرة من التماسيح المتوحشة العملاقة تتوطن فى بحيرة السد العالى ويزيد تعدادها على 80 ألف تمساح دون سند أو أى مرجع أو دراسة علمية ذكرت هذه الأرقام، وأن هذه التماسيح الشريرة تأكل كل أسماك البحيرة وتجبر المصريين على تناول الفول والفلافل فقط بدلا من الأسماك المقلية والمشوية التى ينبغى أن تنتشر عرباتها فى كل شوارع مصر أسوة بما يحدث فى إنجلترا، وأنه ينبغى صيد هذه التماسيح والاستفادة من جلودها ولحومها وتوفير ما تلتهمه من أسماك!.
حقيقة الأمر أن شعبنا الطيب يصدق الكثير مما يقال فى الفضائيات أو يُنشر عبر مقالات دون أن يدرى إن كان المتحدث مؤهلًا للحديث عن الأمر من عدمه، ودون أن يراجع المادة العلمية لأمثال هذه الأحاديث.. ولذلك أصدرت جامعة أسوان دراسة فى عام 2020 تنفى هذا الأمر تمامًا، ومن قبلها بعدة سنوات تصريحات لرئيس الجامعة ينفى هذه الأعداد غير الحقيقية عن تماسيح البحيرة ومسؤوليتها عن نقص التعداد السمكى والصيد من بحيرة السد العالى، وأن تعداد التماسيح فى البحيرة قد يصل إلى 3 آلاف تمساح فقط كما جاء فى الدراسة المنشورة، وقد يصل فى تقديرات أخرى أضعاف هذا العدد، ولكن أغلبها من التماسيح الصغيرة، وأن التماسيح البالغة تبحث عن شواطئ رملية حول أماكن تواجدها لتضع فيها البيض، وأن أغلب مناطق البحيرة فى مصر صخرية حجرية، وبالتالى فقد تتواجد فى الجزء الأول من البحيرة الموجودة فى السودان (النوبة السودانية) بطول 150 كم أكثر مما تتواجد فى مصر. وعدّدَ البحث أسباب تراجع الرصيد السمكى فى البحيرة إلى أسباب عدة، منها المراكب القديمة المتهالكة المستخدمة فى الصيد، ونقص وضع الزريعة التى تنمو وتنتج أسماكا كبيرة، والشباك الضيقة التى تصطاد الأسماك الصغيرة ولا تتركها تنمو للوزن المطلوب، وعدم استخدام التقنيات الحديثة فى الصيد.. وغيرها.
وفى دراسة أجنبية حديثة عدّدتْ عشر نقاط عن تماسيح بحيرة ناصر، منها أن تعدادها لا يتزايد بسبب غياب الأراضى والقيعان والشواطئ الرملية التى تبيض فيها، كما أنه محظور صيدها من البحيرة بقوة القانون، وأنها مراقبة من منظمتى التنوع الإحيائى والحفاظ على البيئة التابعتين للأمم المتحدة للحفاظ على التوازن الحيوى فى البحيرة، وإن كان يسمح بتربيتها فى أحواض تربية خارجية تحت رعاية وزارات البيئة، وهى فقط التى يسمح بالاستفادة من جلودها ولحومها. أيضا لا يوجد تعداد موثق وذو خلفية علمية ودقيق عن تعدادها، كما أن وجودها فى البحيرة يمثل مصدرًا للجذب السياحى، ويحرص السائحون على مشاهدتها من البواخر النيلية السياحية المخصصة للإبحار فى البحيرة.. أيضا إن تماسيح بحيرة ناصر موجودة ومنصوص عليها فى اتفاقية التجارة العالمية ومعها النباتات الطبيعية البرية والمائية الموجودة فى وحول البحيرة، وجميعها لا يمكن المساس بها.
وفى المقابل ولتفنيد هذا الأمر، فإذا نظرنا إلى بحيرة فيكتوريا، أكبر بحيرات إفريقيا وثانى أكبر بحيرات العالم وتقع فى منابع النيل الأبيض، نجد أن التماسيح تتجول بكل حرية على شواطئ وجوانب البحيرة، وتضع بيضها فى الأراضى الرملية المحيطة بالبحيرة، وتتكاثر دوريا، وتزداد أعدادها.. ومع ذلك فإن الدول الثلاث المطلة على البحيرة وهى (كينيا وتنزانيا وأوغندا) يصدرون كميات هائلة من أسماك البحيرة، خاصة قشر البياض والبلطى، والتى تطير طازجة إلى أوروبا يوميًّا، حتى إن كينيا التى تحتل 6% فقط من شواطئ البحيرة تصدّر أكبر مما تصدره الدولتان الأخريان، مثل تنزانيا التى تحتل المساحة الأكبر وتليها أوغندا، لامتلاكها تقنيات أحدث ومراكب مؤهلة، وتمثل هذه الصادرات نسبا مرتفعة من الناتج القومى الزراعى للدول الثلاث؛ أى أن وجود التماسيح لم يقلل من كميات أسماك البحيرة ومتواجدة معها فى حالة توازن بيئى وتنوع إحيائى، وأن لديها مصادر أخرى للغذاء غير الأسماك، بالإضافة إلى كونها مصدرا للجذب السياحى لهذه الدول، فى وعلى شواطئ البحيرة ومتنزهاتها الطبيعية البيئية.
الأمر الثانى أنه لا أحد فى دول بحيرة فيكتوريا افتكس مشروعًا لسلخ جلود التماسيح والاتجار فيها ولا الاعتماد على لحومها، ولا اشتكت شعوبهم من تصدير أسماك بحيرتهم وتركهم يعيشون على الفول والفلافل، لأن القوانين تحاسب على الإثارة والإخلال بالسلم المجتمعى وتأليب الطبقات الطيبة الفقيرة على حكوماتها بالحديث عن غير علم.
نفس الأمر يتكرر حين يتحدث البعض عن شواطئ مصرية طويلة وممتدة عبر آلاف الكيلومترات للبحرين المتوسط والأحمر وقناة السويس ونهر نيل بطول 1200 كم، وبحيرة قارون وبحيرة ناصر وخمس بحيرات شمالية.. ومع ذلك لا نستغل كل هذا فى صيد الأسماك، وكأننا شعب من الكسالى لا يريدون العمل، ولا أن الصيد فى مصر ليس مهنة قديمة مترسخة!. وحقيقة الأمر بالنسبة للبحرين الأحمر والمتوسط والبحيرات الشمالية أن هذه البحار الضيقة لا تتوافر بها التيارات البحرية التى تحمل الأسماك إليها، والتى عادة ما تتوافر عند تلاقى البحار الضيقة مع المحيطات الواسعة، مثل لقاء البحر المتوسط بعد مضيق جبل طارق مع المحيط الأطلنطى فنجد أن المغرب وموريتانيا من بلدان الصيد الوفير، ومنها الانتقال شمالا إلى دول غرب أوروبا ولقاء بحر الشمال مع المحيط، فنجد أن جميعها دول صيد أسماك وفيرة. وبالنظر إلى البحر الأحمر نجد أن التقاءه مع المحيط الهندى هى منطقة جذب وصيد أسماك فى الصومال وفى اليمن وجيبوتى وإريتريا، وهى المناطق التى عرفها الصيادون المصريون بالفطرة ويتجهون إليها، وتحدث مشاكل بينهم وبين هذه الدول عند الصيد فى مياههم الإقليمية، وأيضا خليج البنجاب فى بنجلاديش والهند وباكستان.
علينا أن نعلم أن الصيد الجائر والممتد عبر آلاف السنين أدى إلى شبه نضوب للأسماك من البحار والمحيطات، وأن المزارع السمكية من صنع البشر أصبحت مسؤولة عن إنتاج 80% مما يستهلكه العالم من أسماك.. بينما الصيد المفتوح لا يوفر إلا 20% فقط من إنتاج العالم.
الحديث بغير علم فى مجتمعات نامية مضر ومهلك، وعلى الجميع عدم الحديث إلا عن مراجع ودراسات علمية موثقة ومنشورة عن جهات علمية محترمة.
كلية الزراعة جامعة القاهرة