ستكون العواصم العربية القريبة من السودان بحكم الجغرافيا والتاريخ مطالبة بالتحرك العاجل، وليس ثمة عاصمة ملائمة لهذا الدور سوى القاهرة. تدرك الدّولة المصرية عمق تأثير الأوضاع المشتعلة شمال السودان في هدوء المنطقة بشكل عام، ومن دون تمييز، فثمة نتائج خطرة قد تنجم عن الاشتباكات القائمة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي نجم عنها حتى الآن عشرات القتلى من المدنيين، فضلاً عن الوفيات والمصابين من العسكريين.
ومن المؤكّد أن شرارات النيران المندلعة الآن في الخرطوم والمدن المتاخمة لها ستطال الدول القريبة من السودان في المرتبة الأولى، وهو ما يهدد أمنها، وخصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية الحالية التي جعلت الاستقرار القائم استقراراً هشاً ومُعرضاً للزلزلة بسهولة. لذا، ستكون العواصم العربية القريبة من السودان بحكم الجغرافيا والتاريخ مطالبة بالتحرك العاجل، وليس ثمة عاصمة ملائمة لهذا الدور سوى القاهرة.
يشير متابعو الشأن السوداني إلى أنّ هناك دوراً غائباً منذ إطاحة عمر البشير في نيسان/أبريل 2019، وهو دور “الوسيط الأمين” الذي يملك مفاتيح التأثير في جميع مكونات المشهد السياسي والعسكري في السودان، والذي يحرص في الآن ذاته على تعافي البلاد وإرساء الاستقرار الداخلي فيها.
ورغم حرص مؤسسات الدولة المصرية دوماً على إصدار البيانات الرسمية للتعليق على الأحداث السودانية، إضافة إلى استقبال الوفود وتبادل الزيارات، فيبدو أن الأوضاع الداخلية في السودان تحتاج إلى جهد أكبر من جانب مصر، ليس بدوافع العروبة والأخوة التاريخية فحسب، إنما أيضاً حرصاً على الأمن القومي المصري ذاته.
تتشابك الملفات بين البلدين بشكل عام. وقد اختبرت مصر ذلك على المستوى الأمني مرتين في العقود الأخيرة؛ الأولى في التسعينيات مع تنامي نشاط الحركات الإرهابية التي كانت تملك امتدادات داخل السودان مكّنتها من توجيه ضربات متتالية إلى قطاع الشرطة والسياحة في مصر، والأحرى بعد حزيران/يونيو 2013، حين وفّر السودان ملاذاً لبعض المنتمين إلى جماعة الإخوان والمعارضين للنظام المصري الجديد.
أحداث السودان الأخيرة والصراع على السلطة
يعيش السودان أوضاعاً مضطربة منذ سنوات طويلة، إما بسبب مشكلات في الإدارة وطريقة الحكم، وإما نتيجة للمكوّن القبلي والطائفي الذي يتنامى حضوره في ظل ضعف سلطة الدولة، وإما بفعل التدخلات الخارجية التي تبحث عن مصالحها بصرف النظر عن حال مواطني البلد المستهدف.
في الآونة الأخيرة، اندلعت اشتباكات دامية بين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف أيضاً باسم حميدتي، وذلك بعد تصاعد التوترات بشأن المخطط المقترح لانتقال البلاد إلى الحكم المدني. ويفترض أن الرجلين بمنزلة حليفين يديران البلاد منذ هيمنة المكوّن العسكري على الأوضاع في الخرطوم في تشرين الأول/أكتوبر 2021، لكنَّ الخلاف نشب بينهما حول مخطّط ضمّ قوات الدعم السريع إلى الجيش والشخص الذي سيتولى قيادة هذه القوة الجديدة لاحقاً.
وبين نفي وتأكيد، تبادل طرفا الصراع على مدار الأيام الماضية الإعلان عن السيطرة على المواقع الرئيسية، مثل المطارات والطرق السريعة ومبنى الإذاعة والتلفزيون. وفي الوقت ذاته، كانت التسجيلات المصورة تُظهر الناس في الخرطوم وهم يفرّون من رصاص المعارك، ويبحثون عن ساتر للاحتماء به، فيما تستمر أعمدة الدخان الأسود بالتصاعد في المدينة.
وكما يبدو، فرغم إدراك الجميع التوترات القائمة بين برهان وحميدتي، وانتشار قوات الدعم السريع حول العاصمة، لم يكن أحد يتوقع وقوع الاشتباكات واتساعها بهذه الصورة، حتى السكان أنفسهم حوصروا بعيداً من مساكنهم، مع إغلاق الجسور والطرق وإغلاق العديد من المدارس.
المقلق في الأمر أنّ الجيش السوداني يواجه خصماً شرساً، ما يجعل الأمور مرشحة للتصاعد، فقوات الدعم السريع يبلغ عددها 100 ألف عنصر، ولديها خبرات قتالية كبيرة، إذ تعود أصولها إلى ميليشيا الجنجويد التي قاتلت بضراوة المتمردين في دارفور في عهد البشير.
منذ ذلك الحين، بنى حميدتي قوات منظمة تدخلت لاحقاً في الأحداث السياسية داخل السودان، وفي الصراعات الخارجية في اليمن وليبيا، كما أنها تسيطر على بعض مناجم الذهب في السودان، ما يجعل لها نفوذاً اقتصادياً.
الموقف المصري بعد اندلاع الأحداث
في الساعات الأولى من وقوع الاضطرابات الدامية في السودان، جاء الموقف المصري متناغماً مع الموقف الأممي، إذ ناشدت مصر الأطراف المتحاربة التوقف فوراً عن إطلاق النار وتغليب المصلحة العامة والحفاظ على أمن البلاد.
لاحقاً، اتجهت الأنظار إلى المؤسسة العسكرية المصرية، ليس بداعي مسؤوليتها عن الأمن القومي للبلاد فحسب، في ظل الأوضاع غير الآمنة المحيطة بمصر، ولكن أيضاً بسبب حاجة الرأي العام المصري إلى تعليق رسمي، بعد انتشار لقطات مصورة بثّتها قوات الدعم السريع في صفحاتها عبر الشبكات الاجتماعية، تدّعي فيها “احتجاز مجموعة من القوات المصرية في قاعدة عسكرية بمروي شمالي البلاد”.
وقد صدر بيان من الجيش المصري دعا فيه إلى الحفاظ على أمن قواته الموجودة في السودان بغرض إجراء تدريبات مع نظرائها وسلامتهم، وأوضح المتحدث العسكري أن “التنسيق جارٍ مع الجهات المعنية في السودان لضمان تأمين تلك القوات”.
في الوقت ذاته، قال قائد قوات الدعم السريع: “إن القوات المصرية المتحفظ عليها في أمان، وإنه يأسف للفيديوهات التي تم التقاطها للقوات المصرية”.على صعيد موازٍ، لم يتوقف نشاط الخارجية المصرية منذ وقوع الأحداث؛ ففي اليوم الأول لاندلاع الاشتباكات، السبت 15 نيسان/أبريل، صدر بيان يدعو “كل الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس وإعلاء المصالح العليا للوطن”. وفي اليوم الثاني، هاتف وزير الخارجية المصير سامح شكري نظيره السوداني للتعبير عن قلقه من استمرار اشتباكات، ولتأكيد الموقف المصري الداعم لوحدة السودان وسلامته.
وكانت القاهرة والرياض، بعد ساعات من توتر الأوضاع داخل الخرطوم، قد دعتا إلى عقد اجتماع طارئ في الجامعة العربية على مستوى المندوبين الدائمين. وقد طالب مندوب مصر في الجامعة العربية عبيدة الدندراوي، خلال الاجتماع الذي عُقد الأحد 16 نيسان/أبريل، جميع الأطراف السودانيين إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وتسوية النقاط الخلافية.
من جانبه، أعرب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال اتصال هاتفي مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، عن قلقه من تطورات الموقف في السودان، مؤكداً خطورة التداعيات السلبية للأحداث على استقرار السودان، مطالباً الأطراف السودانية بتغليب لغة الحوار.
ومع عصر اليوم الثاني من اندلاع الأحداث، أعرب الرئيس المصري ونظيره سلفا كير رئيس جنوب السودان، خلال اتصال هاتفي جمع بينهما، عن استعداد البلدين للقيام بالوساطة بين الأطراف السودانية، مؤكدين أن تصاعد العنف لن يؤدي إلا إلى مزيد من تدهور الوضع، بما قد يخرج به عن السيطرة.
مصر والقيام بدور الوساطة
يؤكّد المراقبون أنَّ القاهرة ستكون مؤهلة بدرجة كبيرة للقيام بدور الوساطة لتجنيب السودانيين مزيداً من إراقة الدماء وإضاعة الفرص، وخصوصاً في ظل الأحداث الأخيرة التي تُعدّ فريدة من نوعها داخل الخرطوم، والتي توحي بأنها قد تمتدّ إلى أيام وأسابيع طويلة.
تعود أهليّة القاهرة للقيام بهذا الدور إلى الأسباب الآتية:
أولاً: وعي الإدارة المصرية بمدى ارتباط مصالح بلادها بمصالح السودان على وجه التحديد، سواء بسبب الجوار الجغرافي وما يفرضه من روابط اقتصادية وأمنية أو بسبب مواجهة البلدين تحدي سد النهضة الإثيوبي والتأثيرات السلبية المحتملة في حصة مصر والسودان من مياه النيل.
ثانياً: علاقة مؤسسات الدولة المصرية القوية بطرفي النزاع داخل السودان، سواء كان الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، الذي قام بأداء التحية العسكرية للسيسي في إحدى زياراته للقاهرة عام 2019، أو قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي الّذي لا تجمعه أي خصومة سياسية أو أيديولوجية مع مصر، والذي يدرك المنافع التي تعود إلى أوضاعه في الخرطوم جراء تحسين علاقاته بالقاهرة.
ثالثاً: حاجة القاهرة إلى رفع معدّل تأثيرها الإقليمي، بعدما تراجع دورها خلال الفترة الماضية بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تتعرض لها البلاد وتراجع القوة الشرائية للعملة المحلية.
رابعاً: تخوّف الدولة المصرية من إطالة أمد الأزمة في السودان بالشّكل الذي يؤثر سلباً في المشروعات الاقتصادية المصرية القائمة هناك أو التي يخطط القطاع الخاص لإقامتها في المستقبل القريب.
خامساً: رهان الدولة المصرية دوماً على المكوّن العسكري لتولي زمام المبادرة في البلدان التي تعاني أزمات كالسودان، بحيث يكون ضامناً للأمن والاستقرار، وهي لا تريد أن تقدّم الخرطوم نموذجاً مضاداً لتلك الرؤية عبر اندلاع صراع طرفين حليفين، أحدهما عسكري والآخر شبه عسكري.
سادساً: امتلاك الخارجية المصرية الخبرات اللازمة لإدارة هذا النوع من المفاوضات، نتيجة اشتباكها في الملف السوداني على مدار تاريخها، وبشكل مكثف خلال السنوات الأخيرة.
سابعاً: ضخامة حجم الجالية السودانية في مصر، ما يضيف إليها مزيداً من أدوات التأثير في جميع الأحداث التي تقع داخل الخرطوم.
ورغم ما سبق من عوامل تدفع القاهرة إلى التقدّم خطوات باتجاه أداء دور الوسيط الجاد للمساهمة في حل الأزمة الدائرة في السودان اليوم، ثمة معوّقات قد تعرقل هذه المساعي، ربما أبرزها سياسة مصر الخارجية التي تتحاشى التورّط بدرجة كبيرة في ملفات الصراع الدائرة في الإقليم أو في العالم، إضافةً إلى بعض التدخلات الخارجية الأخرى في الملف السوداني على وجه التحديد، والتي لا تريد للقاهرة أن يكون لها كلمة بارزة فيه.