منذ زمنٍ بعيدٍ يُلحُّ عليَّ ذلك المشهدُ وتستثيرُني تلك الكلماتُ ، وما زلت منذ ذلك الحينِ أترقبُ وأتساءل : هل تحققت تلك النبوءة ؟ أو هل من الممكن أن تتحققَ فعلا ؟ كان ذلك في مفتتح عام 1990 تقريبا أيامَ كنتُ طالبًا بكلية الآداب بجامعة المنيا ، وكنا في ندوة شعرية بقصر ثقافة المنيا ، وكان في طليعة الحضور العالمُ الجليل اد. عبد الحميد إبراهيم عميدُ كليةِ الدراسات العربيةِ والإسلامية ( دار العلوم الآن ) بجامعة المنيا ، صاحبُ الكتاب الفريد "الوسطيةُ العربيةُ- مذهبٌ وتطبيق" ، وكان تيارُ الحداثة في الشعر كاسحًا وفاتنًا في تلك الفترة، وحدث أن ألقى أحدُ ملاحيسها من الشعراء قصيدةً لا رأسَ لها ولا ذنبَ ولا ملامحَ قارةً في (كراكيبها اللغوية) -ولا أقول تراكيبها اللغوية، وقد أساء فيها إساءة فاحشة إلى ذات الله تعالى ، فضجت القاعة وانقسم الحضور إلى مؤيد ومعارض ، وانبرى أحدُ مُحدِثي الدكتوراه يومَها (ك- ص) ينافحُ بحماسٍ عن الحداثة ، وينفي عنها ما يوجه إليها من اتهامات، بل ادعى أن الحداثة ليس فيها أبدا ما يعارض الدين بل تحترم الدين ولا تضيق بوجوده ، فانبرى له اد. عبد الحميد إبراهيم ببيانه الساطع وعلمِه الغزير، مؤكدًا أنه ينظر بعين الرِّيبة إلى الحداثة ، ويرى فيها كائنًا لقيطًا ممسوخًا لا تتوافر له أسبابُ الحياة وإنْ ملأ الدنيا صياحًا وضجيجًا ، ثم أطلق عبارةً لا تزالُ ترنُّ في أذني حين قال : إنَّ تيارَ الحداثةِ في الشعر لن يمتدَّ به العمرُ أكثرَ من ربع قرن ، وعلل ذلك بقوله إننا نشهد تصاعدًا واضحًا لتيار الأصوليةِ الذي يرفضُ الحداثةَ ويعتبرُها هدمًا للدين .
وقد مر اليومَ على هذه النبوءةِ أكثرُ من ربع قرنٍ من الزمان ، ولا أستطيع الجزمَ بأنها تحققت على وجه كامل، فلا تزال هناك أصواتٌ تستميتُ لترويج بضاعةِ الحداثةِ المزجاةِ ، ولا يزال يسيطرُ على بعض مؤسساتِنا الثقافيةِ نفرٌ من مهاويسِ الحداثةِ بكل مايحمله هذا المصطلحُ من مفاهيمَ وظلالِ معانٍ مريبةٍ نبتت في بيئات مغايرة ، وقد طفح كلُّ ذلك بثماره الخبيثةِ التي تتمثلُ في نشأة أجيالٍ من الحداثيين المحاربين لكل مايمتُّ للتراث والأصالة والدين والقيم الموروثة بصلة ، والأمثلة على ذلك كثيرة وتجلياتُها فيما يكتبون جلية وواضحة ، وحسبُك أن تقرأ نتاجَ أحدِهم فلا تعثرَ على قيمة أدبية أصيلة ، ولا إشارةٍ تدل على احترامِه لمعطياتِ اللغة وحدودِها ومنطقِها الخاص ، بل تجد الغموضَ والإبهامَ وغلبةَ لغةِ الأساطيرِ اليونانية وشطحاتِ بعضِ المتصوفة، والتجاوزَ الواضحَ وتحطيمَ الثوابت وخلخلةَ علاقاتِ اللغة وابتداعَ معاجمَ لغويةٍ لا تحكمُها قوانينُ ثابتةٌ ولا حدٌّ أدنى من منطقٍ مقبول ، فهذا أحدُهم يقول :
المدى ينداح في انسكابات الشوارع
وانبعاجات الزمان
وأنا وأنت على المدى متمرمطان
تحت أحذية الحوائط والشوارع شقلباظ
والحنايا في الزوايا لاهثة
واستجابات التجلي / التمني / التحلي
ناكثة
وال…
في ال..
لل..
وفضاءات التمحور حول ذاتك باحثة
تبًّا لآلهة حقيرة
ظهري يئن وأنت التل أحمله
ويحملني
وأعبده ويجلدني
إله………….
ثم تأتي هنا عبارةٌ فيها إساءةٌ بالغةٌ لذات الله تعالى ، ثم يعللون هذا الهراءَ بقولهم : هذه محاكاةٌ لغويةٌ للعبث الذي هو عنوانُ واقعِنا اليوم ، فكلُّ شيء في واقعنا قلقٌ ومضطربٌ وغيرُ منطقي ، فعدمُ منطقيةِ الواقعِ تؤدي إلى عدمِ منطقيةِ اللغةِ والفكر، وما اللغةُ والفكرُ والإبداعُ إلا صورةٌ للواقع المعيش ، وهو كلامٌ ظاهرُه مواكبةُ مقتضياتِ العصر وباطنُه الإلحادُ والزندقة ، فهذا في حقيقةِ الأمرِ تمردٌ على اللغةِ والقيمِ ليس إلا ، وهم أنفسُهم يشهدون على أنفسِهم بذلك حين يرفعون شعار : التنميطُ عدوُ الإبداع ، ويقصدون بالتنميط هنا النُظُمَ أيًا كان مظهرُها لغويةَ كانت أم دينية أم اجتماعية ، فالإبداعُ الحقيقيُّ عندهم هو ما جاء متجاوزًا لكل هذه النُظمِ التي لا يرون فيها إلا قيودًا عقيمة ، فهم متمردون على أنساق اللغةِ والنظامِ العروضي والمضامينِ الفكريةِ الأصيلة والنظمِ الأسلوبيةِ المعهودةِ والقيمِ الفنيةِ الموروثة ، ويرون أنها قيودٌ عقيمة ، فيخلطون هنا بين القواعد التي تحفظ للفن هويتَه وخصوصيتَه وتمنعُه من الدخلاء والمتطفلين وبين القيود العمياء التي ليست من طبيعة الفن ولا من عناصره المطلوبة فيه ، كما شرح ذلك الأستاذ العقاد ، مبينًا أن الإبداع الحقيقي هو مع احترام هذه القواعدِ لا تحطيمِها ، ضاربًا على ذلك مثالا بلاعب السيرك الذي يسير بكل تمكنٍ واقتدارٍ على الحبل ومن يسير على قدميه في طريق واسعٍ بلا أي قيدٍ ولا شرط ، لاشك أن الإبداعَ والإمتاعَ سيكونان من نصيب الأولِ لاحترامِه القواعد ، أما الثاني فلا قيمة لسيره التافهِ على قدميه فهذا يحسنُه كلُّ أحد .
ويبدو أن القضيةَ عندهم ليست قضيةَ قواعدَ أو قيودٍ بقدر ماهي رفضٌ للتراث وقطيعةٌ تامةٌ مع الجذور، وفي كلام سادتِهم وكبرائِهم ما يؤيد ذلك ، وحسبُك أن تقرأَ بعضَ كتاباتِ كبيرِهم الذي علمهم الحداثةَ “أدونيس” الذي حمل على التراث حملةً هوجاءَ ، وكان يري فيه عقبةً كأداءَ أمام انطلاقِ العقل العربي في مسيرته نحو التطور والإبداع ، ثم تابعَه على ذلك أحمد عبد المعطي حجازي الذي ذكر (بعظمةِ لسانِه) أن الحداثيين ينظرون إلى ماضي الأجدادِ والآباء نظرةَ الأبناء إلى الآباء الذين بدَّدُوا ثرواتِ أسرِهم وعرَّضوا أبناءَهم للضياع ، بل يدعو حجازي إلى تجاوز نظمِ اللغة وأدبياتِها الموروثةِ ، ويرى فيها عجزًا عن مسايرة حاجات العصر، كما يرى أن قواعدَ اللغةِ عملٌ بشريٌّ يمكنُ شطبُه بجرَّةِ قلمٍ واختراعِ قواعدَ جديدةٍ ، ويقول “اتفق الناسُ على أن يكونَ الفاعلُ مرفوعًا والمفعولُ منصوبًا وبإمكانِهم أن يتفقوا على العكس “
ومن أوجُهِ الخطورةِ في المشروع الحداثي المريبِ بالأسس التي عرضناها أن سرطانَه الخبيثَ وصل إلى جامعاتِنا وأصبح له منظرون ومنافحون عنه في كليات اللغةِ العربية وأقسامِها التي يُفترض أنها أنشئت لتكون حصنًا منيعًا في مواجهة كلِ دعواتِ هدم اللغةِ والتراثِ والقيم ، فوصل الحالُ إلى نشأةِ أجيالٍ من مدعي الأدبِ مقطوعي الصلةِ تمامًا بلغة التراث وقضاياه وأمجادِه الباذخةِ وأعلامِه النابهين ، وأصبحت صالوناتُ الشعر في أيامِنا تعج بالحداثيين الذين يُفرغون في مسامِعنا بضاعتَهم الراكدةَ التي يكتنفُها الغموضُ والأحاجي في كلِ سطرٍ منها ، ويتحققُ فيهم قولُ محمود غنيم :
يقولُ الشعرَ قائلُهم كجلمودٍ من الصخرِ
فلا ندري له معنى
ولا قائلُه يدري
وتنتشر مجلاتُ الشعر في ربوع الكنانة فتجدُ الكثرةَ الكاثرةَ منها تهلل لهذا العبثِ وتفتحُ له أبوابَها على الرُّحب والسَّعة ، وتقلب بين يديك هذه المجلاتِ الشعريةَ فلا تعثرُ فيها على قيمةٍ تذكرُ إلا ومضاتٍ خافتةً في ظلامٍ دامسٍ ، وتجد الذين يرفعون شعارَ الثورةِ على التكرار والتنميط والقولبة هم أنفسُهم أسرى التكرار والتنميط والقولبة وهو حديث يطول شرحُه .
هذا هو الحالُ منذ زمنٍ بعيد ، حتى ظهرت مؤخرًا بارقةُ أملٍ تتمثلُ في ظهور كيانٍ شعريٍ (محافظٍ مجدد) وهو (واحةُ أمير الشعراء للشعراء المحافظين السائرين على درب الخليل) ، ويتخذ روادُه من العروض الخليلي الصارم نموذجَ الشكل ، ومن أمير الشعراء “شوقي” المحافظِ المجددِ نموذجًا للقيم الفنية ، وهو كيانٌ شعريٌّ اضطلع بتأسيسِه باقةٌ متميزةٌ من الشعراء الشباب على رأسِهم الشاعر “خالد سعد” الذي حمل على عاتقه عبءَ الدعوةِ والتأسيس ومواجهةِ الصعوبات والتحديات المادية والمعنوية ، حتى استوى هذا الكيانُ الشعريُّ على سُوقِه وأينعت ثمارُه وطاب جناه ، واجتمع عشراتٌ من الشعراء المجيدين المتميزين تحت مظلة هذا الكيانِ الشعري المحافظِ المجدد، وأقول “كيانٌ شعريٌ محافظ مجدد”، لأن روادَه حريصون على احترام القواعدِ الموروثةِ والقيمِ الفنيةِ والأخلاقيةِ الأصيلة، وفي الوقت نفسِه يجتهدون لفتح آفاقٍ جديدةٍ في الأسلوب والتعبير والموضوعات ، ويرفضون رفضًا قاطعًا أيَّ لونٍ من ألوان التعاطي مع الحداثةِ والحداثيين ، ويتخذون من موقفِهم من الحداثة والحداثيين تحديًا وجوديًّا : إما نحن وإما هم .
وتتمثلُ بارقةُ الأمل في هذا الكيان الشعري الوليدِ في سرعة انتشاره واستقباله بالحفاوة والتبجيل لدى قطاعٍ كبيرٍ في مجتمع الشعراء والأدباء والنقاد ، ومن هنا تأتي القيمة الحقيقية لهذا الكيانِ الشعري الجاد والمتميز، وتتمثل هذه القيمةُ في إمكانية تصدي هذا الكيانِ لتيار الحداثةِ الجارفِ وكبحِ جماحِه ثم القضاءِ عليه في نهاية الأمر ، وأرى أن هذا النصرَ المنشودَ مرهونٌ بتحقيق معادلةٍ مهمةٍ وحاسمة وهي المزجُ بكل حرفيةٍ واقتدارٍ بين قيمِ الأصالةِ وأشواقِ التجديد ، وهو أمرٌ صعبٌ حقًا ولكنه ليس مستحيلا ، وأرى بوادرَه في إبداعات بعضِ شعراءِ هذا الكيانِ الشعري (واحة أمير الشعراء) .
ويستطيع أيُّ باحثٍ منصفٍ أن يكشفَ عن ملامحَ تجديديةٍ لديهم، لعل من أهمها ما يتعلق بالمضامين الفكرية وبناءِ الأسلوب وعصريةِ الأدوات، وفي كل ذلك ما يُفنِّد ادعاءَ الحداثيين بعجز اللغةِ والشكلِ العروضي والقيم الفنيةِ الأصيلةِ عن مواكبةِ قضايا العصر الحديث بمستحدثاته ومستجداته على جميع الأصعدة ، فهذه “عبير زكريا” من شاعرات الواحة – وهي عالمة متخصصة في مجالٍ علمي حديث “الميكروبيولوجي” – تعبر بالشعر عن قضايا علمية وتمزج بين العلم والوجدان ، فتكتب شعرا عن “الكربون” الذي يمثل لبَّ مشاكلِ البيئةِ في عصرنا الحاضر، وتكتب عن “الخرسانة” بأبعادِها الماديةِ والمعنوية، فتطوع لغةَ العلم الصارمةَ للغة الشعر الحالمة :
قَطَعتْ بلا رفقٍ وريدَ خيالي
جثمتْ عل الأنفاس والأحوالِ
خرسانةٌ صبَّتْ على أيامِنا
خنقت صبي القلب بالأغلالِ
خبت الطبيعةُ خلف سدٍ مانعٍ
حجب أحاطت بالنفيس الغالي
شاخت رؤانا وانحنت فقراتُنا
من وطأة الأحمال والأثقال
نتصنع الضحكات بين همومنا
ونلوكها بتوهمٍ وخيالِ
وتعبر "دعاء رخا" -من شاعرات الواحة- عن معانٍ فلسفيةٍ وصوفيةٍ عميقة ، وتتغلغلُ في أعماق النفسِ الإنسانيةِ في تمكنٍ من ناصية اللغةِ واقتدار على فنون التعبير، فتقول على سبيل المثال:
وكيف الروحُ بعد البعدِ تحيا
ورغم حياتِها تشكو المنايا
وكيف يُقال عنها طيُّ قلبي
وقلبي طي قلبك بالحنايا
وكيف تهز في طيني حنيني
فيغدو الطينُ بالأنات نايا
وكيف أنا أهدهدُها بنفسي
وما نفسي لديَّ ولا أنايا
أذاك لأن بعضَ البعد وصلٌ
وليس البعدُ كل البعد نايا
وأن ضناي بعضٌ من ضمانٍ
كأن ضمانَ حبي في ضنايا
أجبْني كدتُّ أفنى يا حبيبي
وإن ترض الذي بي، زدْ فنايا
وهذا "محمد ناجي" بأسلوبه الذي يمثل المقابلَ العصريَّ لأسلوب المتنبي ، يقتنصُ اللمحاتِ الإنسانيةَ الشاردةَ فيصوغُها بيانًا شعريًا يؤكد تمكنَه من أدوات الفن بقواعده الموروثة لغةً وإيقاعًا ورؤية ، وعلى الرغم من ذلك تلحظ روحَ العصر في شعره من خلال بنائه اللغوي المتفرد الذي يمزج باقتدار بين الأصالة والمعاصرة بحيث لا يطغى جانبٌ على آخر، وهو ما سماه العقاد "النفس الدرعمي" نسبةً إلى شعراء دار العلوم ، فيقول محمد ناجي -على سبيل المثال- معبرًا عن مأساة فتاةٍ أوقعها طموحُها وطيشُها في زِيجةٍ بائسة :
تزوجتُه بعد أن صار كهلا
وبالنفس صوتٌ يهتف: مهلا
وكنتُ غريرةَ قلبٍ وحلمٍ
وعيشي يطرحُ وردًا وفُلَّا
مضيتُ ولم ألتفت للمنادي
فأعدو بطيشٍ ويهتفُ مهلا
فيا بؤسَ عمري أمسى رمادا
وعني الرجاء مضى وتولى
إذا ما تشهيتُ دميةَ طفلٍ
فُجِعتُ بأني أنجبتُ طفلا
ولعل من أظهر مزاياهم – في رأيي على الأقل – حرصَهم على الانتصار للفضائل والقيم النبيلة ، وهو الأمرُ الذي يراه "أبو تمام" من أهم أسباب خلودِ الشعر وانتشارِه حيث يقول :
ولولا خلالٌ سنَّها الشعرُ ما درى
بُغاةُ النَّدى من أين تُؤتَى المكارمُ
وكيف لا يُكتب الخلودُ لكلماتٍ تخلِّد القيمَ الإنسانيةَ الرفيعةَ والمشاعرَ النبيلة ؟ فما قيمةُ الشعر إذن وأيُّ وظيفةٍ أخرى له أهم من ذلك ؟ هل وظيفتُه السبحُ في هلاوس السُّكارى والضلالُ في متاهات الغموض التي لا تفيد شيئا ؟ وهل تستوي كلماتُ أحدِ مهاويس الهلاوس والغموض وكلماتُ شاعر الواحة "درويش جبل" التي عبر فيها عن مشاعره تجاه طفلٍ بائسٍ يعزفُ أنغاما عذبةً من مزماره وأمامه قطتُه الصغيرةُ التي ألقت إليه أذنيها في إعجابٍ بالغ بما تسمع ، ويتجاوز درويش جبل هذا المشهد إلى معانٍ أعلى وإشاراتٍ أعمقَ فيقول :
اعزِفْ بنايك إنني مسرورُ
أنغامُ عزفِك ثورةٌ وضميرُ
دغدغ بلحنِك في المشاعر علَّه
بركانُ عطفٍ بالفؤاد يفورُ
أيقظ عيونَ الشرق من إغفاءةٍ
فالجمعُ غافٍ والمنامُ قريرُ
كفكفْ دموعَك فالربيعُ مهاجرٌ
لا نسمَ يرجى والقلوبُ هجير
ياسُلَّمَ البيتِ العتيقِ بدارةٍ هل
راق سمعَك لحنُه المبتورُ
والهِرُّ يسمع من لحون عذابِه
وكأنه قلبث الضنى مفطور
هدهد فؤادك واتئد يا حلمَنا
فالكلُّ خلف هوائه مقهور
في عزفك الأملُ المداعبُ أمتي
يشتاقُ لحنَك قلبُها الموتورُ
لا تبتئسْ فالفقرُ ليس جريرةً
ربُّ الخلائق شاهدٌ وخبيرُ
ولا وجهَ لادِّعاء الحداثيين بأن النسجَ على منوالِ الأجداد يستوجبُ التقعرَ واللجوءَ إلى وحشي الكلام ، فإن اللغةَ أوسعُ رحابًا مما يظنون ، ويستطيع الشاعرُ الحقُ الموهوب أن يطيرَ بها في كل الآفاق مالكًا زمامَها بكل اقتدار ، فيقودَها ولا تقودُه ، وينتقيَ من أطايبِها وأزهارِها ما ينتفعُ به، ويلبسَ لكل حال لبوسَها ، ويعبرَ عن كل معنى بما يقتضيه ، وهذا واحدٌ من شعراء الواحة ممن ملكوا زمامَ اللغة نراه في موقفِ العتاب البسيط ينتقي أبسط الكلمات ، لأنه يريد أن يصلَ عتابُه بكل تفاصيل مرارتِه إلى المعاتَب ، فيقول حسن سلطان :
نفد الكلامُ وجفت الأقلامُ
نفد العتاب وما علىَّ ملامُ
باللوم والعتبى سعيت مجاهرا
والكبرُ في قلب الحبيب سقام
وعلى شغاف القلب حطت دمعتي
أين السماحةُ والتقى وغرام
إن السلامَ لفي فؤادي فطرة
والحرب عندك بغيةٌ ومرام
أين الودادُ وأنت تشهد موتتي
والضربُ في الموتى أذى وحرام
وحسْبُ شعراء الواحة أنهم يسعون للعودة بالشعر إلى غاياته الحقيقية ، وما الشعرُ إلا لغةٌ راقية ،وعاطفةٌ صادقة ، وموهبة حقيقية تصنع من الكلمات مزيجا ساحرا لا يزول أثره ، وبشكل خاص في غرض المديح النبوي حيث تنسكب المشاعر وينساب الكلام بمثل كلمات حسين أبوسيف -من شعراء الواحة- الذي يقول :
نثرتُ العطرَ فانسكب انسكابا
وفاح المسكُ في الدنيا وطابا
بذكر محمدٍ ينساب شعري
ويرفل بين أضلعِنا شهابا
ومالي لا أرى قلمي مُجيدًا
فنونَ المدح والعليا أصابا
رسول الله خير الخلق هديا
وأقوم في محافلنا كتابا
هو المبعوث بالقرآن نورا
ولو سُئل الإلهُ به أجابا
وهذا الحرصُ على الانتصار للقيم والفضائل في مواجهة دعاة الإسفاف والابتذال يقوي الأملَ في نجاح شعراء الواحة ، ويُشعر بأنهم واعون لمهمتهم ورسالتهم وهدفِهم ، ولذلك ينتشر شعرُ الحكمة لديهم نابعًا من تجاربهم الذاتية وبأسلوب يواكب روحَ العصر ولغتَه ، ويَظهر ذلك واضحا جليا في شعر رائدِهم "خالد سعد" الذي أرى فيه حرصا واضحا على الانتصار للقيم والفضائل فنيا وسلوكيا ، ومن ِشعره هذه الأبيات الراقية :
الخير أقبل طُفْ بنا ياصاحِ
حول المروج وجنةِ الأرواحِ
واجمع رفاقَ العهد تحت لوائنا
وانشر بساحتنا هدوء الراح
خير أتيح فخذ أطايبَ ثغرها
فالخيرُ ليس على المدى بمتاح
رقت كأنسام الصباح بنورها
وتجملت في سندسٍ فياح
وبصوتها عزفُ الغصون ملاحنٌ
كملاحن الأوتار والأقداح
ورأيتُها كالشمس أبهى من عرو
سٍ زُينت من عسجدٍ وضاح
إني لأحسبُها الربيعَ بحسنِه
وجمالِه وكزهره الفواح
يا بنتَ يعربَ في القلوب مكانُكم
فتجمَّلوا بمروءة وسماح
ولا يمكنُ في هذا المقام المقتضب أن أتحدثَ عنهم جميعا -وهم أهلٌ لكل حديثٍ جميل- لكثرةِ عددِهم وضيقِ المقام حصرهم ، ولكنْ نذكر بعضَ أسمائهم سريعا فلا ننسى إمام سراج ويوسف الحملة وشريف العاقل وعبير طلعت ومحمد دياب غزاوي وشريفة السيد وعلي الشيمي وغيرَهم من المجيدين المتميزين الذين تعرفُهم ساحاتُ الإبداع ولا تنكرُهم أبدا .
ويبقى السؤال : هل يفعلُها “خالد سعد” ورفاقُه في واحة أمير الشعراء، فيعيدوا للشعر وجهَه العربيَّ الأصيلَ بلغتِه الجزلةِ ونظامِ عروضِه الخليلي الصارمِ وقيمِه الأصيلةِ وأهدافِه النبيلة ، فيقضوا بذلك على ضجيج الحداثيين؟ أم ينتصرُ الحداثيون ويظلُّ طنينُهم في آذانِنا إلى مدى لا يعلمُه إلا الله ؟
كبير مذيعى. إذاعة القرآن الكريم