إنّ تحليلَ البنية والتركيبة المجتمعيّة الإسرائيليّة وانعكاساتها السياسيّة، يجب أن تكون ضمنَ أولوياتِ قراءتنا للعدوّ، ومعرفة طبيعة تلك التركيبة والانزياحات التي تحدث داخل الكيان الإسرائيلي، التي ينطبق عليها مفهوم “النمذجة” الجارية لتكون جميعها على ذات الشاكلة – إن لم تكن أصلًا – تنهل من نبع اليمين الدينيّ والسياسيّ؛ كون المعرفة العلميّة المتطوّرة والمترابطة لهذا الكيان،
تعدُّ أولى حلقات البدء في عمليّة صياغةٍ استراتيجيّةٍ شاملةٍ للمواجهة، ونقطة البدء هنا؛ يُفترض أن تنطلق من الإقرار بأن “إسرائيل” عام 2022 ليست على الإطلاق إسرائيل عام 1948– لا بالمعايير الاقتصاديّة والاجتماعيّة ولا بالمعايير العسكريّة والسياسيّة – وإنّه لجزءٌ أساسيٌّ من هذه المعايير هو البنية والتركيبة التي يمثّلها ويشغلها الحريديم؛ اجتماعيًّا وسياسيًّا، وهذا متوقّفٌ إلى حدٍّ كبيرٍ على فهم العناصر الأساسيّة للسياسات الحريديّة – بغض النظر– عن الاختلافات والانشقاقات وجهود التوحّد باستمرارٍ بين أفرادها وطوائفها.
لا شك أن القومية تحتاج إلى رموز دينية لتأكيد الخصوصية، وغالباً ما تتم عولمة هذه الرموز في الفكر القومي، أو يتم تأميم تاريخ الدين والمشاعر الدينية بأثر رجعي، ولا شك أنه تمت في حالتي باكستان وأرمينيا علمنة الإنتماءالديني أوالطائفي كونه إنتماء إلى جماعة، ولكن حالة إسرائيل هي التي يمارس فيها التطابق بشكل كامل، ويتم فيها الإنتماء إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين، ويتع إتباع نهج ديني واستخدام أدوات دينية لفحص الإنتماء إلى هذه القومية، كما أن الحجة الوحيدة المستخدمة لتبرير السيادة وحق تقرير المصير هي حجة دينية تاريخية يدعي بموجبها وجود حق تاريخي توراتي على الأرض ولا يجري في الحالة الإسرائيلية اختيار تهود اليهود دينياً حسب لغرض تحصيل المواطنة الإسرائيلية، بل ترفض أيضاً لغرض المواطنة اليهودية من غير دينه من اليهودية إلى ديانة أخرى، ولا ينطبق عليه قانون العودة.
إن هدف الصهيونية العالمية هو إقامة دولة دينية داودية سليمانية أوتوقراطية، عاتية، مستبدة، تحكم العالم من أورشليم-القدس التي حسب التفسيرات التلمودية، هي قاعدة الإنطلاق للإستيلاء على العالم، وإقامة الحكومة العالمية، وتعد دولة إسرائيل النموذج الصهيوني المصغر لهذه الحكومة لهذا تحفزت الصهيونية في تنفيذ مخططها الحقيقي، وهو إقامة الدولة الدينية اليهودية فوق الأرض المقدسة في فلسطين عام 1948، ورغم تسترها بالعلمانية والديمقراطية والليبرالية وما يشتق من معانيها، وهي شعارات ماسونية
إن النظام السياسي الإسرائيلي المعاصر، نظام ديني – ثيوقراطي، يلعب الدين أو البعد الديني دوراً مهماً في صنع قراره السياسي الوطني والإقليمي العالمي. ولكي نعي خلفيات هذا البعد الديني لا بدّ لنا من إستحضار حقائق دينية وتاريخية من ذلك الموروث المقدس في تلك البقاع المباركة وأرض الرسالات ومهدها، لأن اليهود حسموا صراعهم القديم والحديث مع الآخرين (الكفار) وبالذات مع الإسلام على أنه صراع ديني – تاريخي، وأن القدس وما حولها ستكون ميداناً لهذا الصراع حيث ستشهد أرضها حربا كونية أطلقوا عليها إسم معركة (هرمجدون) التي هي حسب تصورهم التوراني هي بداية الخلاص المسيحي.
إن للصراع القادم بعدين:- زماني ومكاني، أما البعد الزماني فإنهم يدعون أن الدخول الفعلي سيكون مع بداية الألفية الثالثة ، وأما البعد المكاني، فإنه سيكون في الأرض الوسط والبقعة المباركة على أرض الشام وما حولها من مصر والحجاز والعراق التي أسموها أرض الميعاد.
إن الخطاب السياسي الإسرائيلي المعاصر، لا يعاني من إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، لأن السياسة في تصورهم هي إمتداد للدين والتفسيرات التلمودية، والدليل على ذلك، هو المد الديني في المجتمع والدولة والجيش، حتى أصبحت ظاهرة يصعب تجاهلها، وأخذ يهدد نظامهم العلماني الذي يحرصون على الظهور أو التظاهر أمام المجتمع الدولي، بينما الواقع السياسي يؤكد أن الدين يشكل جوهر هذا النظام، أما الأبعاد الأخرى فهي تابعة له. إن تنامي دور الأصولية الصهيونية في المجمتمع الإسرائيلي، يجسد هذه الحقيقة كونها دولة دينية – ثيوقراطية، عقيدة وفكراً ونظاماً، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال:- هيمنة دار الحاخامية التي هي المرجعية الدينية العليا لليهود على المؤسسات السياسية حكومة وبرلماناً وأحزاباً.
في إسرائيل خلافاً للدول القومية الأخرى، لا تنطبق الأمة مع المواطنة، فليس كل مواطن إسرائيلي جزءاً من الأمة الإسرائيلية التي لا تعترف المؤسسات الرسمية أصلاً بوجودها، إن أكثرية السكان في إسرائيل سكان يهود ينتمون إلى أمة عالمية هي الأمة اليهودية، والنقاش الجاري في إسرائيل حالياً هو فقط بشأن ما إذا كانت إسرائيل دولة اليهود أم تعد ذلك لتكون دولة يهودية أي دولة ذات طابع ديني يهودي، لكن كلا الطرفين المتنافسين في إسرائيل لا يتجاوز عملياً التطابق بين الأمة والطائفة، أو إعتبار الإنتماء إلى الطائفة اليهودية إنتماء إلى الأمة اليهودية.
وتحتد النقاشات في إسرائيل بشأن موضوعات حقوقية عديدة تتعلق بعلاقة الدين بالدولة مثل عدم إعتراف الدولة بالزواج العلماني، وتدخل المؤسسة الدينية في العديد من جوانب الأحوال الشخصية إلى جانب تقييد حركة المواصلات في شوارع معينة يسكنها المتدينون أيام السبت، ومنع إستيراد لحم الخنزير، وتدخل المؤسسة الدينية في منح لقب كوشير ر للمطاعم التي تقدم طعامها وفق أصول الشريعة، وغالباً ما يأخذ هذا النقاش في إسرائيل شكل الصراع ضد ما يسمى "فرض الدين على الدولة" وخصوصاً مع إزدياد وزن الأحزاب الدينية الناجم عن قدرتها على فرض شروط خلال المفاوضات الحكومية، مستغلة انقسام الكنيست إلى قسمين متعادلين بين حزب الليكود وحلفائه اليمينيين من جهة، وبين حزب العمل والأحزاب الواقفة إلى يساره من جهة أخرى، وما يلفت النظر أيضاً رفع القوى العلمانية الصهيونية في تظاهراتها شعارات تدعو الى تجنيد طلاب المدارس الدينية (اليشيفوت) للجيش الإسرائيلي.
إن علاقة الديني بالسياسي في إسرائيل علاقة ملبسة جداً ومعقدة، ففي الوقت الذي تعد إسرائيل نفسها دولة ديمقراطية مدنية، إلا أنها أيضاً من الناحية الأخرى دولة يحكمها العسكر دائماً، فطيلة تاريخها السياسي كان رؤساء وزرائها من المؤسسة العسكرية الأمر الذي يؤكد أن ثمة علاقة بين العقيدة العسكرية والعقيدة الدينية، وهذا ما يفسر الحضور الكبير لشخصيات دينية (حاخامات) في السياسة الاسرائيلية، ولماذا عندما تذهب إسرائيل (الحكومة) للسلام يأخذ رجال الدين فيها الجانب المتطرف والمتشدد؟ وعليه يتساءل البعض من يحرض الآخر ومن المؤثر الأكبر أم هي لعبة متبادلة الأطراف ومعترف بها في الساحة الإسرائيلية؟ ما الحدود الفاصلة بين ظاهرتين السلطة السياسية والسلطة الدينية؟ ومن المعلوم أن علاقة الديني بالسياسي شغلت حيزاً كبيراً في إهتمام الفلاسفة ورجال الفكر والسياسة ورجال الدين، وأسهمت جهود كل من رواد فكر التنوير الغربي أمثال ميكافيلي وجون لوك في الحد من سلطة الكنيسة بشكل أو بآخر.
فالدين لم يتوقف بشكل نهائي عن التدخل في الأمور الدنيوية وأن الكنيسة في الغرب لم تسلم من الإستغلال السياسي، والدين لم يتوقف كلياً عن التدخل في الأمور الدنيوية بدليل قرار مؤتمر الفاتيكان الثاني القاضي بتبرئة اليهود من دم المسيح وبكتابة عبارة " في الرب نضع ثقتنا على الدولار الأمريكي
وضمن تلك السياقات مجتمعة التي تجعل من الديني تابعاً للسياسي يمكن فهم طبيعة التصريحات التي أطلقها أخيراً رئيس طائفة اليهود الشرقيين في العالم والرئيس الروحي لحركة شاس الدينية الحاخام (عافوديا يوسف) التي دعا فيها إلى قتل الفلسطينيين جميعاً لأن قتلهم أصبح الآن مشروعاً من وجهة نظره التي تحمل في طياتها رؤية التلمود للبشر من غير اليهود، وهذه الدعوة ليست بالدعوة الجديدة للفكر الديني والسياسي الذي ينطلق منه الحاخام (عافوديا) فقد سبق تلك التصريحات تصريحات لا تقل خطورة عن تلك التصريحات،
وذلك عشية عيد الفصح اليهودي عندما ألقى في خطبة تقليدية لا تقل خطورة عن تلك التصريحات، أخيراً تحدث فيها عافوديا يوسف عن العرب الذين يناصبون العداء لإسرائيل منذ مائة عام ويحاولون تدميرها، وقال في إرشاداته لليهود، أكثروا من ذكر هذه الآية في التوراة خلال عيد الفصح: ” صب غضبك على الأغيار ” لأن أعداءنا يحاولون القضاء علينا منذ خروجنا من مصر حتى اليوم من دون توقف، ودعا عافوديا يوسف الله أن ينتقم من العرب ويبيد ذريتهم ويسحقهم ويخضعهم ويمحوهم عن وجه البسيطة، وأوصى اليهود بالشدة مع العرب.
” ممنوع الإشفاق عليهم، يجب قصفهم بالصواريخ بكثافة وإبادتهم، إنهم لشريرون ” وهو بتلك التعبيرات يقترب بشكل مباشر من روايات الثأر والانتقام والإعتداء والقتل التي تطغى على كل ما يرد في النصوص التورانية والتلمودية المتداولة حالياً، وهي لا تخلو من الغدر والخيانة والحض على الإستعلاء والعدوان والتسلط والعزلة وضرورة التوجس من الأغيار والترفع عنهم وهو ما اتخذته الصهيونية منهجاً رئيساً وأعادت تشكيله بما يتفق والواقع الراهن. فالحالة الدينية والسياسية اليهودية تتميز بعدة خصائص كما يشخصها الدكتور عبد الغفار الدويك في كتابه ( الحال الدينية في إسرائيل )الأولى:- أن نمو الحركة الدينية في إسرائيل أخذ إتجاهاً عكسياً لنمو الحركات الإجتماعية عامة والدينية خاصة،
إذ يؤكد التنظير السوسيولوجي أن الحركة الإجتماعية تنمو إلى أعلى من السياسة إلى العقيدة، على خلاف ذلك كان تطور الحركات الدينية في اسرائيل، فيما تطورت من أساس عقيدي ثابت وقوي تمثل في الديانة اليهودية، وبسبب ظروف إجتماعية غير مواتية عاشتها الجماعات اليهودية في الشتات، شكلت المعتقدات الدينية أساساً لعقيدة أيديولوجية حتى تأسست الصهيونية في ظل المعتقدات الدينية التي تسعى إلى التجسيد المادي على هيئة المجتمع الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية في المكان الآمن المحدد، وتتمثل الخاصية الثانية في أنه حينما تأسس التيار الديني في بناء المجتمع الإسرائيلي تعاملت معه اليهودية السياسية بمنطق نفعي، حيث التداخل الكبير بين السياسة والإقتصاد، من ثم نجد أن التيار الديني حاضر أبداً وبقوة في اللحظات المهمة والتاريخية من تاريخ المجتمع الإسرائيلي، وتتمثل الخاصية الثالثة في الحضور الدائم للتيار الديني على الساحة لكنه حضور دينامي في الغالب في لحظات الخطر يقتحم عالم السياسة ليتولى تعبئة يهود العالم وراء الفعل السياسي الإسرائيلي حيث يوظف العقيدة لتنظيم الفعل السياسي أو النتائج المنزلة عليه في لحظات الاسترخاء، وفي السياق الذي يبحث في جدل الديني والسياسي ذاته يستدعي الأمر الوقوف عند جدلية الديني والسياسي في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص.