يتعدى الناقد الكبير الأستاذ الدكتور عبدالرحمن عبدالسلام، كونه مختصا في ميدان النقد الأدبي، أو مشتغلا به في الجامعة، إلى درجة الناقد المفكر في ذلك الاختصاص والشأن الفكري بعامة، وآية ذلك ما تراه في مؤلفاته وكتاباته وأحاديثه، وكدليل على ما نذكر سنقتطف مقولة صغيرة من بحر مقولاته الغزير، وهي ما يتعلق بالمنهج السيميائي أو السيميائية ودورها في فهم ظواهر الكون وتفسيرها وتأويلها، ومن ثم الوصول إلى فهم أعمق للوجود وللإنسان، بما هو مدار أو حجر الرحى لهذا الوجود: “إن الوعي العميق بالسيميائية سيقود إلى أن جوهرها الحق يتجاوز محض دراسة العلامة أو سيرورة إنتاج الدلالة وتداولها، إلى حيث مشيئتها فهم ظواهر الكون وتأويلها من أجل فهم أجمل وأعمق وأكمل للوجود وللعالم فيه، ومن ثم تطوير رؤى الإنسان وسيروراته الاجتماعية والحضارية ورقيها إلى حافتها المثلى” (من كتابه : التأويل السيميائي للشعر..أمل دنقل من العلامة إلى التاريخ، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط١، ٢.٢١، ص ص ٢٥، ٢٦).
ينصب اهتمام ناقدنا الكبير، منذ وقت مبكر من دراساته، على المنهج التأويلي، واستكناه أسراره، وبحث آليات اشتغاله، في النص الأدبي وسياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية، وذلك مذ أخرج لنا سفره القيم : “فتنة التأويل: المتنبي من النص إلى الخطاب”، مرورا بـ “جسر الهوة (مقاربة تأسيسية في النقد البصير)، الذي كشف من خلاله، بوعي ناقد بصير ومفكر من طراز رفيع، عن أزمة نقدنا العربي المعاصر، وهي أزمة مستفحلة حقا، وهو هنا يتابع السير دؤوبا على خط فكري واحد، أو يعزف على الوتر ذاته، وإن بألحان متنوعة تنوع إنتاجه الغزير العميق، وهو علاقة الناقد والمنهج الذي يشتغل عليه بالوجود والعالم، من خلال الفهم والتأويل الصحيح لظواهره، وللإنسان، وصولا إلى الوقوف على التحديات التي يواجهها وأزماته المصيرية، واجتراح الحلول الملائمة لها.
يقول:” إن أدبنا العربي والشعر في الصدارة منه، في خطر داهم حقيقة لا ادعاء، وإن هناك هوة سحيقة تفصل بين الإبداع وبين الجمهور، وإن هذه الهوة قد استحكمت بفعل مشكلات النقد المتفاقمة التي تتعمق وتتوسع كل يوم…إن أزمة الهوة بين الأدب والجمهور ليست مقصورة على الواقع الثقافي العربي، وإنما هي واقع عالمي نجم عن تهوُس العلوم الإنسانية باللحاق بركب العلوم الطبيعية في مناهجها البحثية ، وإجراءات إنتاج المعرفة، والوصول إلى الحقيقة العلمية الدامغة مع ما في ذلك من مغالطة وشطط يخلطان بين هويات العلوم، ويمزجان بين خصائصها المتباينة” (جسر الهوة، دار البشير للثقافة والعلوم، ط١، ٢٠٢٢، ص ص١٧، ١٨).
ولعل الوعي بمثل هذه المسائل والمعضلات، بل التحديات الجسام، التي تقف في طريق نهضة أمتنا ثقافيا وفكريا واجتماعيا، وسياسيا واقتصاديا أيضا، هو بداية الوقوف على طريق إيجاد حلول لها وتجاوزها، ليس في ميدان النقد الأدبي فحسب، بل في الدراسة الأكاديمية العربية بشكل عام، وهو ما ترجمه الناقد المفكر د.عبدالرحمن عبدالسلام في سفره بالغ الأهمية الذي صدر منذ أيام قلائل، وهو : الفكر الأكاديمي.. الجامعات العربية من التصدع إلى التحصين”، والذي درس فيه واقع هذه الجامعات، وأسباب التراجع الأكاديمي وتدهور حالته، فيما يطلق عليه اسم”الأمية الأكاديمية” التي هي، كما يقول، بيت الداء وثالثة الأثافي، بل هي عندي رأس كل خطيئة، لأنها كالخمر التي تسكر العقول، وتضلل الأفهام بما تخمره بها من لذاءة تفضي إلى غياب العقل وشتات الحكمة. والأمية الثقافية تسكر العقل بالجهالة وتملؤه بالترهات والأباطيل والوعي الزائف”.