قَرَّرتُ أَن أَزورَ ( إيليا أبو ماضي) ، فَزُرتُهُ في مكتبتِهِ _ فَسَلَّمتُ عليهِ ، فَرَدَّ السَّلامَ بِتواضعٍ وكان يقرأ كتابًا بِعنوان ( تَحضير الأَرواح) !_ ، فَسَألتُهُ _ استغرابٍ _ :
_ من العَجيبِ أَن يَقرَأَ ( إِيليا أبو ماضي) كتابًا عن ( تَحضير الأرواح) ، وهو الشَّاعرُ الَّذي لا يُؤمنُ بِخُلُودِ الرُّوح !
فَضَحِكَ ، ووَضَعَ الكتابَ على الطَّاولة ، وقالَ :
_ المُفكِّرُ يَقرأُ كُلَّ شيءٍ ، وهذا لا يَعني أَنَّ المُفكَّرَ يَتَبنَّى كُلَّ ما يَقرؤهُ !…وأَنا أَقرأُ هذا الكتابَ لِلتَّسلية ، نَعم ، أَتَسلَّى بِخُرافات البَشَر !
فَقُلتُ لَهُ _ باهتمام_ :
_ هل خُلُودُ الرُّوح خُرافة ؟!
فَصاحَ _ بِانفعالٍ _ :
_ نعم ، طبعًا ، ولا ينبغي على الإِنسانِ المُتعلِّمِ في القرن الواحد والعشرين أَن يعتقدَ بِهذا المُعتَقَدِ البدائيِّ القَديمِ قِدَمَ إِنسانِ الكُهُوفِ ، ولا يَعيشُ وينتعشُ هذا التَّفكير إِلَّا في الأَقوام الهمجيَّةِ ، فالأقوامُ الهَمجيَّةُ كُلُّها كانتْ تَعتقِدُ بِخُلُودِ الرُّوحِ بعد الموت ؛ لِذلكَ كانتْ تعبُدُها أو تُقدِّمُ لَها الأضاحي والقرابين البشَريَّة !
فَقُلتُ لَهُ _ باعتراضٍ _
_ لكنَّ الإِيمانَ بِخُلُودِ الرُّوحِ من أَساسيَّاتِ الأَديانِ السَّماويَّة ، لا سِيَّما المَسيحيَّة والإِسلاميَّة ؟!
فَسَعلَ ، وحَكَّ مؤخرةَ رَأسِهِ ، ثُمَّ قالَ :
_ الأَديانُ _ أَبَدًا _ تُخاطبُ النَّاسَ العادييِّن بِما يَفهمونَهُ وبِما يَردَعُهم عن الإِلحاد وفعل الشَّرِّ ، أَمَّا المُفَكِّرُونَ فَهُم يَفهَمونَ النُّصُوصَ الدِّينيَّة فَهمًا آخَرَ !
فَقُلتُ لَهُ :
_ هل أَنتَ مِمَّن يُؤمنونَ بِإِله ( الفلاسفة) لا إِلهِ ( الأَنبياء) ، أَو ما يُطلَقُ عليهم بِ ( الرُّبُوبيُّون) ؟!
فقالَ _ بِسرعة _ :
_ نعم ، أَنا أُؤمنُ بِإِلهِ الفلاسفة أَكثر من إِيمانِ كلِّ رِجال الدِّين _ من كُلِّ الأَديان السَّماويَّة مُجتَمِعين ! _ بِإِله ( الأَنبياء) !
فقلتُ لَهُ :
_ وهل ( إِلهُ الفلاسفة ) لَهُ فعلٌ مُؤثِّرٌ في الكون وفي حياة الإِنسان ، كما هُو إِلهُ ( ألأنبياء) ، أَم إِنَّهُ مُجرَّدُ فكرةٍ في عُقُولِ الفلاسفة ومُجرَّدُ ( حبرٍ على وَرقٍ ) في دَفاتِر الفلاسفة ؟! …. ، لِماذا لا يَنصرُ ( إِله الفلاسفة) العلمَ ، إِذ إِنَّنا نرى أَنَّ الخرافة هِيَ السَّائدةُ في كُلِّ الأَزمان ، والنَّاس _ في كُلِّ العُصُور _ أَقرَبُ إِلى ( رجال الدِّين) منهم إِلى ( رجال العِلم والفلسفة ) !، أَلا يَدلُّ هذا على فشَل ( إِله الفلاسفة ) في اجتذاب عُقُول النَّاس وقلوبهم كما فَعَلَ ( إِلهُ الأنبياء) ؟!
ظَلَّ ( إِيليا أبو ماضي) مَذهولًا ، فَلَم يَنبس بِبنتِ شَفةٍ ، وبَدا عليهِ الإِحراج ، وأَخذَ يَتنحنحُ !
فَقُلتُ لَهُ _ وقد عُدتُ إِلى مسألة الرُّوح الّتي شَغَلتْني _ :
_ كيفَ أَموتُ وأختفي فَجأةً ؟! … هذهِ الفكرةُ تُرعبُني وتُقلقُني !
فَضَحكَ ، وقالَ :
_ أنتَ ظهرتَ إِلى هذه الحياة وهذا الوعي فَجأةً أَيضًا ! ، فَلماذا تَستبعدُ أَن تَعُودَ إِلى العَدَمِ ( بعدَ الموت ) وأنتَ جئتَ من العَدَمِ ( قبل الولادة ) ؟! ، فَنحنُ من العَدَمِ وإِنَّا إِليهِ عائِدون ! ، فَنحنُ مثلُ الأَنهارِ تَنبعُ من ( بحر العَدَم) ثُمَّ تَصُبُّ فيهِ ! فَقُلتُ لَهُ بانقباض قلبٍ _ :
_ لِماذا لا تُواسيني بِالحياة بَعد الموت ؟!
فابتسَمَ ابتسامةً ذات مغزى ، وقالَ :
_ كلَّا ، لن أُواسيك بهذهِ الفكرة الكئيبة ! ؛ فالعَدَمُ نعمةٌ حيثُ لا أَلَمٌ ولا حزنٌ ولا حيرةٌ ولا عذابٌ !
فقلتُ _ وأنا أنفثُ الحَسَرات _ :
_ ماذا يَبقى بِنا بعد الموت ؟!
فقالَ باسِمًا :
_ تَبقى إِشاراتٌ أو شَراراتٌ كهربائيَّةٌ في أدمغةِ من عِشنا معهم على شَكلِ ذِكرياتٍ أو أَصواتٍ إِلى أَمَدٍ مَحدودٍ ، ويبقى الأدب والفَنُّ والكُتُب الَّتي أَلَّفناها إِلى أَمَدٍ غيرِ محدودٍ !
سَكَتَ مُتأمِّلًا ، ثُمَّ أَنشَدَ :
تَمُوتُ ، وَيَسكُنُ فِيكَ الأَلَمْ
وما بَعدَ موتِكَ إِلَّا العَدَمْ !
ولا شَيءَ يَبقى سِوى الذِّكرياتِ
أَوِ الكَلِماتِ بِخَطِّ القَلَمْ
وَوَهْمُ الخُلُودِ لَدَينا قَديمٌ
وَقَد كانَ عندَ بُناةِ ( الهَرَمْ ) !
وليسَ الحياةُ سِوى حُلُمٍ
يَمُرُّ سَريعًا عَلينا الحُلُمْ !
وَإِنَّ الوُجُودَ كَعَزْفِ كَمانٍ
وَنحنُ بِهِ ذَبذَباتُ النَّغَمْ !
ويا سائِلًا : هل هُناكَ إِلهٌ ؟!
أَقُولُ _ بِكُلِّ ارتياحٍ _ : نَعَمْ !
ولكِنَّهُ خالقٌ شاعِرٌ
مُحِبٌّ ، وليسَ هُوَ المُنتَقِمْ !
ولا ، لَن يُعذِّبَ مَخلوقَهُ
ويعلَمُ مَنْ هُوَ مُنذُ الرَّحِمْ !
يُخَوِّفُنا مَعشَرٌ بِالجَحيمِ
و مَا مِن جَحيمٍ لَنا غَيرُهُمْ !
يُريدونَ أَن يَظهَرُوا فَوقَنا
وَأن يَجعلُونا لَديهِمْ خَدَمْ !
وَكَمْ خَدَعَ السُّذَّجَ الأبرياءَ
رِجالٌ أُحِلُّوا مَحَلَّ الصَّنَمْ !
فَقُلتُ لَهُ _ بلهجةٍ ذات مغزى_ :
_ كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِ( رجال الدِّين) ؟!
فَقَطَّبَ وجهَهُ _ وكنتُ أظنُّهُ سَيبتسم _ وقالَ لي بِلهجةٍ قلِقةٍ :
_ نعم ، رجالُ الدِّينْ أَكبرُ خطرٍ يُهدِّدُ حضارة القرن الواحد والعشرينْ !
فقلتُ لَهُ _ باندهاشٍ _ :
_ كيف ؟! ولماذا ؟!
فَأنشَدَ بِصوتٍ عالٍ وانفعالٍ :
يا ليتَ شِعرِيَ قل لي كيفَ نتَّفقٌ ؟!
وهذهِ النَّاسُ بِالأَديانِ تَفتَرِقُ ؟ !
تخبَّطَ النَّاسُ في فَوضى مُشَوَّشَةٍ
فَلا تَرى أُمَّةً في أُمَّةٍ تَثِقُ !
وإِنَّمَا هذهِ الدُّنيا على خَطَرٍ
فَرُبَّمَا بِلَهيبِ الدِّينِ تَحترِقُ !
وقَد تَقُومُ حُرُوبٌ لا انتهاءَ لَها
والحربُ تَبدؤها الأَقلامُ والوَرَقُ !
وَلَو تَصَفَّحْتَ تاريخًا لِتقرأَهُ
إِذن ، رَأيتَ أُناسًا في دَمٍ غَرِقُوا !
وَرُبَّما تَخنقُ الأَديانُ فِكرَتَنا
فَإِنَّني _ من رِجالِ الدِّينِ _ مُختَنِقُ !
وَرُبَّما كَفَّرُونا _ من سَفاهَتِهِمْ _
فَكَمْ بِهِمْ قُطِعَتْ مِنْ مُبدعٍ عُنُقُ !
ليسَ التَّشاؤمُ مِن طَبعي ولا شِيَمي
لكِنَّني _ مِن غَدٍ آتٍ لَنا _ قَلِقُ !
فَقُلتُ لَهُ _ مُعتَرِضًا _ :
_ هُنالِكَ رجالُ دينٍ يَسعونَ لِلتَّقَدُّم ، وإِن كانُوا قلَّة قليلةً مثل السَّيِّد المُفَكِّر ( أحمد القنابجي) ، و هُنالِكَ رجالُ علمٍ يَسعونَ لِلتَّخلُّف مثل العديد من أساتذةِ الجامعات من ذوي الاختصاص العلميِّ المُتَديِّنين ولكنَّ تفكيرهم غير علميٍّ أبدًا وبعضهم يؤمن بأنَّ الأرضَ مُسطَّحةٌ أو مُجوَّفةٌ ! !… ثُمَّ أَلا يُمكنُ أن يلتقي ( العلمُ) مع ( الدِّين) ؟!
فأطرَقَ ، ثُمَّ أنشَدَ :
الدِّينُ والعلمُ سارَا في مُعاكَسَةٍ
لا يَلتَقي العلمُ _ في يومٍ _ مَعَ الدِّينِ !
هذا يَقُومُ على رَأيٍ وعاطفَةٍ
وذا يَقُومُ على جَمْعِ البَراهينِ !
هذا يَقُومُ على إِحداثِ مُعجِزَةٍ
وذاكَ يَمنَعُ خَرْقًا لِلقَوانينِ !
::::::::::::::::::::::::::::
حينَ وَدَّعتُ ( إِيليا أَبو ماضي) ، مَشَيتُ كثيرًا بلا وجهةٍ ، تحتَ شَمسٍ صيفٍ حارقةٍ ، ثُمَّ استظلَّيتُ تحتَ شَجرةٍ ، ورحتُ أُردِّد :
تَمُوتُ ويسكُنُ فيكَ الأَلَمْ
وما بَعدَ موتِكَ إِلَّا العَدَمْ !
ورحتُ أبتسِمُ ، وأبتسِمُ ، حَتَّى تَحوَّلتِ ابتسامتي إِلى ضِحكةٍ ، ضِحكةٍ بِلا معنى ، مثل الحياة تمامًا !