اللون في الأدب هو واحد من الرموز التي يعبر بها الكاتب ولا سيما الشاعر عما يختلجه من رؤى وأفكار كما أنه يجعل مخيلة المتلقي تسرح بالصورة التي ينسجها بما فيها من رموزه التي تتراءى في أول الوعي بها بجانبها الحسي ، ومن ثم الوعي بها عن طريق سياقاتها التي ترد فيها ؛ فتحقق المعاني المضمرة التي تلوح في أفق النص بوصف اللون يتميز "بمجموعة هائلة من القيم الدلالية بإمكاننا أن نميز من خلال الغريزة الوراثية والقوانين الجمعية التي لها علاقة بالحالة الاجتماعية والتاريخية" (1) والنفسية .
ويبدو أنَّ اللون يؤدي دوراً جماليا لما للنفس من توق لأشياء الطبيعة النابضة بالجمال ، فضلاً عما تتضمنه من رمزية حين يتحول الكلام بها في لغة كونية خاصة تحاكي أشياء الوجود ؛ ما جعل الشاعر يستثمرها للتعبير عن معانٍ يعبر بها بلغة الفن بوصفه واحداً من مكنونات الرؤيا الذي به تتوافق العلاقة بين الأرضي والكوني ومنه الشعر ذو اللغة الرمزية المعبِّرة عن وحدة الوجود الإنساني حين يعمل على نقل انفعالات الشاعر وعواطفه بوصف الفن يستمد طاقته من الكون الرؤيوي .
والشاعرة آمال صالح من الشاعرات المُجيدات اللاتي وظفن رموز الطبيعة خير توظيف ومنها رمز اللون في شعرها بعدما منحته طاقة إيحائية ؛ تعبر به عن أعماق رؤاها ، فنراها تقول :
تكتمل كلماتي
في شرنقة من تدرّجات الألوان
بين العدول عن الموت
وضربات الزمن الموجعة
أكتفي فقط بخطوة تلهمني المسير … .
الألوان تلوح من بعيد
ومن بعيد أتنازل عن كبرياء حدودي
وأجري على قيد أنملة
تضيق المساحات في رأسي
فالكلمات تكتمل ، والكلمة هي التي وجدت هذا الكون ، إذ قال سبحانه وتعالى : ((إذا أرادَ شيئاً أنْ يقولَ لهُ كُن فيكون)) (يس : 82)، ويبدو أنَّ آمال صالح تجد أن العالم الدنيوي هو من يخلق العراقيل والأوجاع ، وأن الألوان ماهي إلا تدرجات للحياة ، بل هي منبثقة من أصل الوجود فمنها الحارة ومنها الباردة ، فالأحمر والأصفر والإرجواني ألوان حارة لأن النار والشمس والدم مصادر الحرارة والدفء ، أما الأزرق والأخضر والأبيض وما قرب ، ماهي إلا ألوان باردة بين السماء والماء مصادر البرودة ، والألوان الحارة زاهية صارخة تعبر عن الفرح والسرور والضياء والنور والسعادة والهناء ، أما الألوان الباردة هادئة ، وهي تعبِّر عن الحزن والكآبة والظل والظلام ؛ لذلك تقول في قصيدتها (حين أتعب) :
وتعود الشرنقة للعبة الموت والحياة
وفي رأسي إصرار غريب
وعشق للمساحات
وعشق للألوان غريب
هنا وضعت الأزرق على الغيمة السوداء
واللون الأصفر صفعت به الندم
وهنا تفجِّر الأحمر من كلِّ حلم حاولوا عمداً إخفاءه
وهنا الأبيض يفتح لي قلبه
ويلبسني عقداً من الياسمين
حين يذوب الوقت
في شرنقة الموت .
أعرف أنَّ اللون الأخضر
يعاتب المدى
يطوي المسافات
لا تأنيب اليوم
أنا من أغزل الحياة
أنا من أذيع سرَّ الكلمات .
فهي تمازج بين الألوان ؛ لتعبر عن الصراع القائم في دواخلها ؛ فنراها تعشق الألوان بشقيها ؛ لأنها تعيش حالة القلق كونه يدفع بها إلى بر الأمان مرة ، ومرة إلى الشعور باليأس والإحباط ، فنراها تضع اللون الأزرق على الغيمة السوداء ، فالأزرق بارد ويمثل الحزن ، بينما اللون الأسود ، فيشير هو الآخر للحزن ، أما اللون الأصفر لشدته صفعت به الندم ، والأصفر هو رمز من رموز التفاؤل ، أما الأحمر أيضاً يمثل التفاؤل ، فهي ترسمه متفجِّراً من كلِّ حلم حلمت به ، والحلم يمثل السرور (الحياة) ، بينما اللون الأبيض , فهو من الألوان الباردة فيمثِّل النقاء ، فتصفه من أنه يفتح قلبه لها ويلبسها عقداً من ياسمين ؛ لتستقر في شرنقة الموت ، فيلازمها الاكتئاب والقنوط ، ثمَّ تعرِّج على الأخضر على الرغم من أنه يمثل الانبعاث إلا أنَّ السياق يجرنا إلى فضيلة الموت بالنسبة للشاعرة ، فهي ترى حياتها في انزوائها عن المجتمع ، فهي من تغزل الحياة ، أي تتصرف بها ، وهي من تذيع سرَّ الكلمات بإشاراتها التي تعبر فيها بقصائدها عن أحوال الإنسان ، وهو يعيش بين مَدٍّ وجزر ، وظِلٍّ وحرور ، وهكذا الحياة لاتستمر براحة ، بل يبقى من يعيشها بتعاسة ، فهي بمجملها شقاء ((لقد خلقنا الإنسان في كبد))(البلد : 4) أي يكابد الدنيا .
وفي قصيدتها (في عشق اللون أنا أحيا) التي تقول فيها :
حين أتأمَّل السماء
أكتب لون المغيب في عمق الحلم
أريده أن يكتسب جمالاً .
كنت رسمته يوماً من أيام المطر
ونسيت أنْ أتذكر الألوان
نسيت قوس قزح
يعطيني سر الألوان قبل المغيب
يبدو أنَّ الشاعرة في هذا النص لم تذكر الألوان بينما تذكر أشياء ذات طوابع ملونة ، لتقاعسها منها ، فلم تجد إلا طغيان ما تحمل من ألمٍ وحزن ، فأملها في الحياة رسمته بلون المغيب وهو الأصفر الذي تكتبه بعمق الحلم من أجل أن يكتسب الجمال ويبدو أنها لاترى الجمال ؛ كونها نسيت تذكر الألوان إشارة إلى ضياع ذلك الحلم الذي كتبت فيه هذا اللون أيام المطر ، ونسيت ألوان قوس قزح ، وهي مزيج من الألوان الباردة والحارة ، ولعل النسيان ، هو إشارة إلى غلبة الاغتراب ولعله الاغتراب المكاني الذي جعل منها قانطة ، قلقة تعيش الوحدة ، فهي تقول :
تهافتت الأيام علي
ارتعشت في كلِّ دقيقة بالنسيان
لم أتنبَّه لعلامة الوقت
ولا للحلم الذي أسرى بليل غريب
وأعود أتساءل
هل للغربة قوس قزح
ينطق
يجازف
يترأس كلّ من يعاديني
يعادي اللون في وحدة الذاكرة ؟
ويبدو أنَّ تهافت الأيام أسدى عليها نسيان كل ما هو يبشر بالأمل ، فهي لم تنتبه لعلامات الوقت في إشارة إلى أنَّ أيامها أصبحت واحدة تفتقر للأمل والحلم ؛ فما عاد منهما رجاء ؛ كي تنتظرهما ، فلاعدَّ للوقت عندها بسبب فقدان الأمل ، كما أنها تتساءل (هل للغربة قوس قزح) إشارة منها إلى تلاشي الأفراح والأحزان لديها ، فلا تشعر إلا بوحدتها المضنية . ولعل العداء للون لدى الشاعرة ، يشير لضياع الهدف والشعور بالقنوط ، فتريد من قوس قزح أن يتحمل معاناتها ، ثم تعرج قائلةً :
الكل لايتحمل
الكل يتآمر
لم أفهم بعد مصير الغدر
مصير الكره
لم أفهم إلا تهافت الألوان على ذاكرتي
مهما طال رصيف الانتظار
والسحب مالت وتعاقدت مع الريح … ,
فعطري قرَّر أن يغفر
حتى يتذكر
يرسم
يخطط
ويكتب عشق اللون
حين يحتل الذاكرة .
ويبدو أنَّ الألوان في هذا المقطع هي رمز للناس بمختلف ألوانهم وأطيافهم ، فجعلت منهم طرائق من العداوة والكراهية ، ومهما طال رصيف انتظارها للتبديل ، فلم تجد قيمة تذكر لأن تستبدل الشرور بالخير ؛ كون السحب تعاقدت مع الريح ، والريح تمثل رمز القسوة والتدمير ، فلا هطول للمطر في ساحتها ، بينما عطرها قرر أن يغفر ويتذكر؛ كي يختار لوناً عساه يعيد لها ذاكرتها ، والذاكرة تمثل الأمل والحياة الرغيدة
من كتاب “تأملات في الشعر النسوي العربي المعاصر ”