لاحظ جابريال ماركيز (1927ـ 2014) أن صديقه الذي التقاه قبل سنوات، مهموما بالحرية، مناضلا من أجلها، يتجنب ذكرها، ويضيق ذرعا بكل إشارة تقترب منها. كان الروائي العالمي قد التقى المناضل الفنزويلي هوجو تشافيز(1954 ـ2013) في بدايات ثورته، وأعجبه تأثره بالابداع وسعيه الدائم للحرية. تصور الرجل ـ كما كتب لاحقا ـ أن تشافيز سيحقق آمال الناس في وطن متحضر، ومجتمع حُر وهو ما يمثل ردا على مفاخر العالم الغربي بمجتمعاته الديمقراطية التقليدية، لكن آماله تبددت سرابا. فبعد سنوات من حُكم تشافيز، التقاه مرة أخرى، فوجده قد تحول إلى شخص متعجرف، نرجسي، يظن نفسه لا يُخطئ أبدا، ويعتبر كل معارضيه خونة ومتأمرين.
إن البعض يتصور أن معادن البشر خافية، وأنها لا تظهر سوى بدخوله في التجربة، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي الشهير إبراهام لنكولن أن يقول يوما “إن معظم الرجال تقريبا يتحملون الشدائد، لكن إذا أردت اختبار معدن أحدهم فامنحه سلطة”.
غير أن علماء النفس لهم رأي آخر، ففي تصورهم، فإن السُلطة تُغيّر الناس. وهم يرون أن الكرسي يفعل بجليسه الكثير والكثير. فيبدأ المسئول متواضعا وطموحا وساعيا للإصلاح، ثم يرى الهامات تنحني حوله، ويسمع كلمات الإشادة والإعجاب كل ساعة، ويشعر أن كلمة واحدة يلفظها يُمكن أن تعز أقواما وتذل آخرين، فتتبدل أفكاره، وتتغير سماته الإنسانية، وربما يشعر بمحبة كُل مادح، ويستريب من لوم وانتقاد كل معارض. ومهما كان إخلاص الإنسان لقيمه وأخلاقه، فإن موجات الإعجاب المتواصلة تُعصف بكل ثابت، ولا ينجو من التغير سوى فلتات نادرة.
من هُنا، لا يستغرب المرء كثيرا عندما يقرأ أن الرئيس أنور السادات في العام الأول لحكمه، رفع بساعده الفأس، وضرب جدران المعتقل، وأحرق بنفسه شرائط التسجيلات، معلنا بدء عهد حريات عظيم، ثم اعتقل في عام رحيله بجرة قلم ألف وخمسمائة سياسي دفعة واحدة، وسب معارضيه على الملأ في خطاب سياسي. كذلك فإننا لا نندهش أيضا أن نرى الرئيس حسني مبارك من بعده يفرج عن كل السجناء، ويقول في أحد خطاباته المبكرة “إن الكفن ليس له جيوب”، ثم ينقلب به الحال للسخرية من معارضيه، ويسمح لطحالب الفساد بالنمو، لتنخر جسد الدولة حتى يسقط البنيان في أول ريح عاصفة.
ثمة تفسيرات منطقية يقدمها علماء النفس لما تفعله السلطة المطقلة بصاحبها. نقرأ في كتاب البروفيسور داتشر كيلتنر، أستاذ علم النفس جامعة بركلي بكاليفورنيا، والمعنون بـ “مفارقة السلطة” أن منح أي إنسان سلطة بدون رقيب تؤدي حتما إلى تغير سلوكه. ويُلاحظ أن أول مؤشرات التغير هي اعتقاد صاحب السلطة الدائم أنه على حق. ثاني الملاحظات التي يُقدمها المؤلف هي أن صاحب السلطة يشعر بنوع من الإدمان تجاه سلطته، فيؤمن أن هذه السلطة أبدية، وليست مؤقتة. كذلك، فثمة شعور خفي بالسعادة تحت تصور أن السلطة تعبير عن تقدير كبير من الآخرين.
وبشكل عملي أحضر مختبر أكاديمي في الولايات المتحدة مجموعة من الطلاب، وقسمهم إلى مجموعات، وتم منح شخص واحد داخل كل مجموعة السلطة على أفراد المجموعة، بعد أن قيل له كذبا أنه يتمتع بمهارات قيادية جيدة. وتم تقديم أطباق من البسكويت متباين الجودة، لقائد كل مجموعة ليقوم بتوزيعها على أفراد مجموعته، وكانت الملاحظة الأوضح أن قائد كل مجموعة كان يحصل على أفضل قطع البسكويت، وكان يأكل بطريقة فوضوية، وسريعة.
وعني ذلك أن صاحب السلطة ينحاز دوما إلى التعسف، والتعالي، ويشعر بأنه الأفضل بين من يقودهم. وخلص الاختبار إلى أن ضمان الفائدة من أي سلطة هو ضرورة إيجاد رقابة المرجوة منه حقيقية عليها، وخضوعها لنظام واضح، يكفل عدم البقاء في السلطة لفترة طويلة.
والله أعلم
mostafawfd@hotmail.com