بعد أكثر شهرين على حرب الإبادة الجماعية، لم تنتصر إسرائيل وحلفاؤها على غزة الصامدة، رغم الحصار والقصف المستمر بالقنابل الصواريخ الفتاكة من الأرض والبحر والجو، ورغم الفيتو المتكرر، والإمدادات العسكرية الغربية التى لا تتوقف بالسلاح والعتاد والقوات والمعلومات الاستخباراتية، ورغم الخراب والدمار الهائل، وآلاف الشهداء والمصابين، رغم كل هذا لم تنتصر إسرائيل على غزة، وإنما انتصرت على بعض المترفين المتخاذلين من أبناء جلدتنا، الذين يتماهون معها، ويتحدثون بلسانها، ولا يخجلون من الدفاع عما يزعمون أنه حقها.
هؤلاء المتخاذلون لم يجربوا الوقوف يوما فى وجه غاصب، ولم يذوقوا حلاوة التضحية والفداء من أجل الوطن والحرية، لكنهم اعتادوا حب الدنيا ومغرياتها، حتى لو حملهم هذا الحب إلى معسكر الأعداء، ليس بالضرورة بأجسادهم، وإنما بعقولهم وفكرهم، لا يكتفون بأن يكونوا تابعين، وإنما يبالغون فى حقدهم وتقاعسهم وخذلانهم لإخوانهم الذين اختاروا أن يحرروا وطنهم، ليعيشوا فيه أحرارا.
لقد أراد الله تعالى أن تكون الحرب الحالية على غزة حربا عالمية، يشترك فيها إسرائيليون وأمريكيون وبريطانيون وفرنسيون وألمان وكنديون واستراليون، ومن خلفهم ومعهم جيوش لا نعلمهم، الله يعلمهم، لكى يكون صمود المقاومة فى وجه هؤلاء جميعا لأكثر من ستين يوما معجزة حقيقية يراها العالم رأي العين، لكن المؤلم أن يخرج من بيننا من يؤيد العدوان، ويحرض ضد المقاومة، ويقول مثلما يقول الصهاينة إنها حرب على حماس، وإنها عملية عسكرية لاستئصال الجماعات الإرهابية، وإنها ستكون فاتحة خير على أهل غزة، وما إلى ذلك من العبارات التى صكتها إسرائيل لتبرر بها عدوانها البربري.
وفى حين تخرج تظاهرات شعبية فى الدول المتورطة فى الحرب رفضا للعدوان، ويتحدث برلمانيون وإعلاميون فى بريطانيا وأيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وأمريكا عن حقوق الشعب الفلسطينى، يمعن المتخاذلون عندنا فى تثبيط المقاومة وإدانتها، والتبشير بهزيمتها، وتكرار الرواية الإسرائيلية المملة حول أوهام السلام والمفاوضات وحل الدولتين، مع أن إسرائيل أكدت فى كل المناسبات أنها لا تريد السلام إلا بشروطها، ولن تقبل أية مبادرة لحل الدولتين، ولا مانع لديها من التفاوض إلى مالا نهاية لكسب الوقت، حتى تقضم الأرض الفلسطينية قطعة قطعة، ولا يتبقى شيء فى الواقع يمكن التفاوض عليه.
لقد قامت دولة إسرائيل على فرضية دينية أسطورية، بأن الله أعطى اليهود الحق فى أرض فلسطين، وعلى فرضية تاريخية فاسدة، بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وما حققته المقاومة حتى الآن أنها كشف زيف هاتين الفرضيتين، وزيف الرواية الإسرائيلية التاريخية بكاملها، وأعادت طرح الرواية التاريخية الفلسطينية، حتى يعرف العقلاء فى هذا العالم حجم الجرم الذى ارتكبه الغرب عندما زرع إسرائيل، وحجم الظلم الذى تعرض ـ وما زال يتعرض ـ له الشعب الفلسطينى.
إن السردية التاريخية التي روجتها إسرائيل حول العالم، وفي الغرب تحديداً، اعتمدت على تحوير جذري في الوقائع التاريخية التي كانت على الأرض، واستغلت فى ذلك إحساس الغرب بالذنب تجاه ما حصل لليهود في المحرقة الجماعية (الهولوكوست)، كما استغلت تبني المسيحية الإنجيلية لفكرة الصهيونية والوطن القومي لليهود في فلسطين، وهاهي الشعوب الغربية تكتشف اليوم أن ما تم بيعه لها هو قصة إسرائيلية كاذبة، وهذه بداية مهمة لإعادة صناعة الرأي العام العالمي في الغرب تحديداً، بخصوص فلسطين وقضيتها، والاستماع لرواية فلسطينية مغايرة، مازالت محفوظة تتداولها الأجيال.
لقد أعطى الغرب المنتصر في الحربين العالميتين مالا يملك لمن لا يستحق، ثم ترك الحبل على الغارب للعصابات الصهيونية المسلحة أن تقتل وتخرب وتدمر لتفرض سيطرتها على أرض فلسطين المسروقة، وغض البصر عن الإمعان المتمادي لإسرائيل في رفض جميع القرارات الدولية، وإفشال كل المبادرات الممكنة لإقامة حل الدولتين، وارتكاب مذابح متكررة فى دير ياسين وخان يونس و الطنطورة ورفح والقدس وصبرا وشاتيلا وكفر قاسم وتل الزعتر والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمى ومخيم جنين وغيرها، وغض البصر أيضا عن اغتيال أول وسيط دولى فى الصراع، الكونت برنادوت 1948، الذى كان من مقترحاته حق الفلسطينيين في العودة دون قيد أو شرط، مع استرجاع جميع ممتلكاتهم، وبقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية، ووضع حد للهجرة اليهودية، وضم النقب للحدود العربية.
القضية إذن ليست حماس، والمقاومة لم تبدأ بحماس، وإنما بدأت مع ظهور المخطط الصهيونى وبداية الهجرات اليهودية، وتزعمتها حركات ومنظمات عديدة، اتهمتها إسرائيل بالإرهاب وترصدت قادتها بالمطاردة والاغتيال، ولم تسلم منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات من ذلك، حتى بعد أن وقع اتفاق أوسلو، فقد حاصروه فى مقره، ولم يعد قادرا على أداء مهامه، وهو ما فعلوه مع خليفته محمود عباس، الذى لم يستطع تحقيق خطوة واحدة لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، كما وعدت أدبيات المصالحة التاريخية، واقترنت رئاسته للسلطة بسلسلة إخفاقات وانهيارات فى عملية السلام.
وحين وقع الانقسام بين فتح وحماس فى 2007 قالت إسرائيل إنها ستحول الضفة الغربية إلى جنة للفلسطنيين المقيمين فيها تحت إدارة فتح، مقابل أن تترك غزة للفقر الجوع والحصار تحت إدارة حماس، لكن الذى حدث أن شهية إسرائيل انفتحت لابتلاع مزيد من الأرض، وارتفعت وتيرة الاستيطان والمصادمات والاعتداءات على المخيمات والمنازل والمسجد الأقصى، دون أن ينجو عباس من التحريض عليه، واتهامه بالعجز عن القيام بما هو مطلوب منه لحماية أمن إسرائيل، ومن ثم فلابد من تغييره، والبحث عن بديل له.