ليس المقصود هنا الحوارات االتي أجريت مع نجيب محفوظ في الصحافة أو التليفزيون والإذاعة، وإنما الحوارات التي ابتكرها بنفسه وصاغها بذكاء مدهش على ألسنة أبطال رواياته، تلك الحوارات التي تعد تحفة فنية في حد ذاتها، على الرغم من كونها جاءت متوافقة جدًا مع سياق الوقائع والأحداث الروائية.
لكن قبل أن أعرض عليك بعض النماذج من تلك الحوارات، هناك أمر ينبغي تحريره في ملحوظتين هما:
1- إن نجيب محفوظ لم يكتب حواراته إلا باللغة العربية الفصحى، حتى لو نطق بها جاهل أو أمي أو مستبد، لكنها الفصحى البسيطة العميقة الكاشفة في الوقت نفسه، وهنا تتجلى عبقريته الفذة في تطوير اللغة العربية لتلائم العصر.
صحيح أنه استخدم بعض المفردات العامية، لكنه استخدام شحيح للغاية لا يؤثر على منطقه الفصيح في التعامل مع (الحوار الروائي)، وهذا ما جعل أي قارئ عربي غير مصري يلتهم أعماله ويتفاعل معها وينفعل بها بقوة، فالفصحى توحد ولا تفرق.
2- إن صاحب نوبل 1988، لم يكتب أي حوار سينمائي على الإطلاق، فكل الأعمال التي كتب لها السيناريو أو القصة السينمائية، هناك شخص آخر كتب لها الحوار، وقد أوضح الرجل ذلك غير مرة، إذ قال: إن الحوار في السينما يستلزم عادة الصياغة باللهجة العامية، وهو ما لا يستطيع فعله.
والآن تعال نطالع بعض النماذج من تلك الحوارات لنرى ونستكشف. في (القاهرة الجديدة/ صدرت 1945) يقول علي طه:
(إني أتهيأ لكتابة موضوع عن توزيع الثروة في مصر)، وفي رواية (ميرامار صدرت في 1967) تقول زهرة الخادمة الريفية: (إني أعمل هنا كما يعمل الشرفاء وأعيش من عرق جبيني). وفي موضع آخر تقول زهرة: (إني أحب الأرض والقرية ولكني لا أحب الشقاء).
هل لاحظت بساطة التركيب اللغوي، رغم فصاحته؟ وفي رواية (الكرنك 1974) تقول قرنفلة الراقصة الأربعينية المعتزلة وصاحبة المقهى:
(عندما تحب حقا فإنما تستغنى بالحب عن الحكمة والبصيرة والكرامة)، وفي زاوية أخرى تردد: (ما كنت أتصور أنني سأتعرض لمرارة التجربة مرة أخرى).
في رواية (رحلة ابن فطومة/ 1983) يقول فام صاحب الفندق في دار المشرق:
(هذه العلاقة تمارس هنا بلا قيود، ما إن تعجب فتاة بفتى حتى تدعوه على مرأى ومسمع من أهلها، وتنبذه إذا انصرفت عنه بنفسها محتفظة بالذرية التي تنسب إليها).
أما في رواية (العائش في الحقيقة/ 1985) فتقول تي مربية الملكة نفرتيتي:
(لم أخالط الملك رغم قربي من زوجته، ولعله لم يخاطبني إلا مرات معدودة، ولكن عذوبته لا تبرح القلب أبدًا).
ونأتي إلى تحفته الخالدة (الحرافيش/ 1977) التي أزعم أنها أفضل رواية عربية على الإطلاق. تخاطب حليمة ابنها:
(صددناه بعنف يا عاشور. فقال بإصرار: لم يكن من الأمر بد).
هل رأيت كيف يصوغ محفوظ حواراته بالفصحى العميقة البسيطة. إنه عبقري عاش بيننا زمنا، بينما رواياته ستظل تبهج الناس من قرن إلى آخر .