هناك عقبات تحول دور وصول السالك إلى الله في الوصول إلى غايته فإذا استطاع التخلصَ منها فسوف يستطيع مواصَلةَ سيرِه والتقرب إليه سبحانه والتخلق بأسمائه وصفاته.
وقد أورد الإمام أبو الحسن الشاذلى – قُدِّس سِرُّه – فى حزب البرّ بعضَ هذه العقبات: فقال: نَعوذ بك مِن شرِّ ما خلقتَ، ونَعوذ بك مِن ظلمةِ ما أبدعتَ، ونَعوذ بك مِن كيد النفوس فيما قَدَّرتَ وأردتَ، ونعوذ بك مِن شرِّ الحسّاد على ما أنعمتَ.
ويَسأل حضرتُه ربَّه – فى فقرة أخرى مِن نفس الحزب – أنْ يَحول بينه وبين بعض العقبات الأخرى؛ فيقول: يا الله يا علِىّ يا عظيم يا حليم يا عليم يا حكيم يا كريم يا سميع يا قريب يا مجيب يا ودود حُلْ بيننا وبين فتنة الدنيا والنساء والغفلة والشهوة وظلم العباد وسوء الخُلُق.
وقال فى الحزب الكبير وحزب النور: واكفِنَا هَمَّ الرزق وخوفَ الخَلْق .
ومن عوامل التخلص مِن عقبات السلوك اهتداءً بكلمات شيخنا الشاذلى* – قَدَّس الله سِرَّه – فى أحزابه.
يهدف الشاذلى إلى أنْ يُعَرِّف كُلَّ مريد أمراضَ نفسِه ومكائدَ الشيطان له وهو يواصل طريقَه إلى الله سبحانه ؛ فإنّ هذا الطريق شاقّ وطويل ومحفوف بالمخاطر والمخاوف المتشعبة بمسالكها ودروبها، وأنّه عند استمرار قراءة أحزابه يستعيذ بالله مِن هذه العقبات ويسأله أنْ يَحول بينه وبينها وأنْ يجتازها عقبةً عقبةً ، ويعطيه مرحلةً بعد مرحلة حتى لا يتعثر ويستطيع مواصَلةَ السير فى سفره إلى رَبِّه.
يصف الشاذلى أربعةَ أدوية لِلتخلص مِن عقبات السلوك؛ وهى: صحبة الخوف مِن الله تعالى.وغلبة الشوق.
وثبات العِلم.و دوام الشكر.
* فيما يخصّ صحبة الخوف :
يقول سبحانه { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير }، وقال تعالى { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } ..
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم {إنِّى أرى ما لا ترون .. أَطَّت السماء وحقّ لها أنْ تَئِطّ؛ ما فيها موضع أربعة أصابع إلاَّ ومَلَك واضع جبهتَه ساجداً لله تعالى .. واللهِ لو تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلا وبكيتم كثيراً وما تلذّذتم بالنساء على الفُرُش ولَخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى}، وقال حضرتُه أيضا { مَن خاف أَدلَج، ومَن أَدلَج بَلَغ المنزلَ .. ألاَ إنّ سلعة الله غالية؛ ألاَ إنّ سلعة الله الجنة } ومعنى أدلج: أىْ سار فى أول الليل، والمراد التشديد فى الطاعة، والاعتقاد بذلك سبب لِترك الشهوات والتجافى عن دار الغرور، وذلك سبب لِلوصول إلى جوار الله تعالى، والله تعالى مسبِّب الأسباب؛ فمَن سبقَت له فى الأزل السعادةُ يَسَّر الله له هذه الأسبابَ حتى يَعود بسلسلتِهَا إلى الجنة؛ وعَجَبٌ لِقوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل؛ فما مِن أحد منهم إلاَّ وهو مقود إلى الجنة بسلاسل الأسباب؛ وهو تسليط العِلم والخوف، وما مِن مخذول إلاَّ وهو مقود إلى النار بسلاسل؛ وهى تسليط الغفلة والغرور عليه.
يقول الشاذلى: أوصانى أستاذى [عبد السلام بن بشيش] أنْ: خف مِن الله خوفاً تأمن به مِن كُلّ شيء، واحذر قلبَك أنْ يأمن مِن الله كُلَّ شيء؛ فلا معنى لِلخوف مِن شئ، ولا لِلأمن مِن الله فى شيء ..
قال: كُلّ خوف يَرُدّك إلى الله رَدَّ الرضا فصاحبُه محمود، وكُلُّ خوفٍ يَرُدُّك إلى غيره فهو مذموم.
صلاح العبد فى ثلاثة أشياء: معرفة الله ، معرفة النفس، ومعرفة الدنيا؛ فمَن عرف اللهَ خاف منه، ومَن عرف النفسَ تَواضَع لِعباد الله، ومَن عرف الدنيا زهد فيها.
كُلّ حسنة لا تثمِر نوراً وعِلماً فى الوقت فلا تعدَّ لها أجراً، وكُلّ سيئة أثمرَت خوفاً وهرباً إلى الله ورجوعاً إليه فلا تعدَّ لها وزراً.
وقال الإمام علىّ – رضى الله عنه – لأحد بنيه: يا بُنَىّ .. خَفِ اللهَ خوفاً ترى أنّك لو أتيتَه بحسنات أهل الأرض لا يتقبلها منك، وارجُ اللهَ رجاءً ترى أنّك لو أتيتَه بسيئات أهل الأرض غفرها لك [كن معلَّقاً بين الخوف والرجاء].
وقال كعب الأحبار [كان يهوديّاً مِن اليمن وأسلم وحسن إسلامه]: والذى نفسى بيده لأنْ أبكى مِن خشية الله حتى تسيل دموعى على وجنتَىَّ أَحَبُّ إلىَّ مِن أنْ أتصدق بجبل مِن الذهب.
وقال عبد الله بن عمر: لأنْ أدمع دمعةً مِن خشية الله أَحَبُّ إلىَّ مِن أنْ أتصدق بألف دينار.
* وأمَّا غلبة الشوق :
فالشوق طلب وتشوُّق، ولا يتصور الشوق إلاَّ إلى محبوب ، والله هو محبوب العارفين ، فمَن غاب عنه مشوقُه وبقى فى قلبه خيالُه فيشتاق إلى استكمال خيالِه بالرؤية، والوجهان مُتصوّران فى حقّ الله تعالى؛ بل هما لازمان بالضرورة لِكُلّ عارف، وإنما اتضح لِلعارفين فى الأمور الإلهية، وإنْ كان فى غاية الوضوح فكأنّه مِن وراء نور رقيق؛ فلا يَكون واضحاً غايةَ الاتضاح؛ بل يَكون مشوباً بشوائب التخيلات، ويضاف إليها شواغل الدنيا؛ فإنّ كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلى، ولا يَكون ذلك إلاَّ فى الآخرة.
إنّ الأمور الإلهية لا نهايةَ لها، وتبقى أمور لا نهايةَ لها غامضة، والعارف يَعلم وجودَها وكونَها معلومةً لله، ويَعلم أنّ ما غاب عن عِلمِه مِن المعلومات أكثر ممَّا حضر؛ فلا يزال متشوقاً إلى أنْ يَحصل له أصلُ المعرفة فيما لم يحصل ممَّا بقى مِن المعلومات التى لم يعرفها أصلاً مِن جلال الله وصفاته وحكمته وأفعاله، ولا يزال العبد عالِماً بأنه بقى مِن الجلال والجمال ما لم يتضح له قَطّ فلا يَسكن شوقُه لا سيَّما مَن يرى فوق درجته درجاتٍ، ويَكون ذلك شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم، ولا يبعد أنْ تَكون ألطاف الكشف والنظر متواليةً إلى غير نهاية.
* وأمَّا ثبات العِلم :
فقد قال تعالى { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون }، وقال سبحانه { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير }، وقال تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور }، وقال تعالى { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرا } ..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَن سلك طريقاً يَلتمس فيه عِلماً سَهَّل اللهُ له طريقاً إلى الجنة }.
والعِلم هو معرفة النعمة مِن المنعِم، ووجه كونِهَا نعمةً فى حقِّه وعِلمه بذات المنعِم ووجود صفاته التى يتمّ بها الإنعام ويَصدر الإنعام منه عليه؛ فإنّه لا بدّ مِن نعمة ومُنعِم ومُنعَم عليه تصل إليه النعمة مِن المنعِم بقصدٍ وإرادة، وهذه الأمور لا بدّ مِن معرفتها؛ هذا فى حقّ غير الله تعالى، وأمَّا فى حقّ الله تعالى فلا يتمّ إلاَّ بأنْ يَعرف أنّ النِّعَم كُلّهَا مِن الله؛ فهو المنعِم، والوسطاء مسخَّرون مِن جهته، وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس ؛ فيعرف أنّه لا مقدَّسَ إلاَّ واحد ، وما عَداه غير مقدَّس، وهذا هو التوحيد، ثمّ يَعلم أنّ كُلّ ما فى العالَم فهو موجود مِن ذلك الواحد فقط مَصدر الخَلْق كُلِّه؛ فالعِلم نعمة منه، ومعرفة هذا ينطوى فيها مع التقديس والتوحيد كمالُ القدرة والانفراد بالفعل .. *
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَن قال (سبحان الله) فله عشر حسنات، ومَن قال (لا إلهَ إلاَّ الله) فله عشرون حسنةً، ومَن قال (الحمد لله) فله ثلاثون حسنة}، وقال حضرتُه {أَفضلُ الذِّكْر (لا إلهَ إلاَّ الله)، وأَفضلُ الدعاء (الحمد لله)* }.
وقال الإمام الغزالى رضى الله عنه: ولاتظنَّنّ أنّ هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات مِن غير حصول معانيها فى القلب؛ فـ(سبحان الله) تقديس، و(لا إلهَ إلاَّ الله) كلمة تدلّ على التوحيد، و(الحمد لله) كلمة تدلّ على معرفة مصدر النعمة مِن الواحد الحقّ؛ فالحسنات بإزاء هذه المعارف التى هى مِن أبواب الإيمان واليقين ..
ومَن عرف اللهَ تعالى وعرف أفعالَه عَلِم أنّ الشمس والقمر والنجوم مسخَّرات بأمره كالقلم فى يد الكاتب، وأنّ الحيوانات التى لها اختيار مسخَّرات فى نفس اختيارها؛ فإنّ الله تعالى هو المسلِّط لِلدواعى عليها لِتفعل – شاءت أَمْ أبت – كالخازن المضطرّ الذى لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملِك ، ولو ظلّ ونفسه لَمَا أعطاك ذرّةً ممَّا فى يده، فكُلّ مَن وصل إليك نعمةٌ مِن الله تعالى على يده فهو مضطرّ؛ إذ سَلَّط اللهُ عليه الإرادةَ وهَيَّج عليه الدواعىَ لِيفعل الشئَ؛ فهو يعطيك لِغرضِ نفسِه لا لِيرضيك، ولولا أنّ منفعته فى منفعتك لَمَا أعطاك؛ فهو إنما يَطلب نفعَ نفسِه بنفعِك، وإنما مَن أنعمَ عليك هو مَن سَخَّرَه لك.
* وأمَّا دوام الشكر :
فقد جعل الله تعالى الشكرَ مفتاحَ كلام أهل الجنة؛ قال تعالى { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه }، وقال { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين }، وقد جعلها الله سبحانه أوّلَ آية فى فاتحة الكتاب الكريم { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين } ..
وعنه – صلى الله عليه وسلم – أنّه قال {ينادَى يومَ القيامة:” ليقم الحامدون ” فتقوم زمرة فيُنصَب لهم لواء فيدخلون الجنة}، قيل :” وما الحامدون يا رسول الله؟ ” قال {الذين يشكرون اللهَ على كُلّ حال}، وفى لفظ آخَر {الذين يشكرون اللهَ على السراء والضراء }، وقال صلى الله عليه وسلم { الحمد رداء الرحمن }.
وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام: ( إنِّى رضيتُ بالشكر مكافأةً مِن أوليائى }، وأوحى إليه أيضا أن: ( دارهم دار السلام؛ إذا دخلوها ألهمتهم الشكرَ، وهو خير الكلام، وعند الشكر أستزيدهم، وبالنظر إلىّ أزيدهم ).
ولَمّا نزل مِن الكنوز ما نزل قال عمر رضى الله عنه:” أىّ مالٍ نتخذ؟ ” فقال عليه السلام { ليتخذ أحدُكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً }؛ فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلاً مِن المال.
وقال ابن مسعود رضى الله عنه: الشكر نصفُ الإيمان.
والتوحيد لله يعرِّفك أنّه الشاكر والشكور، وأنّه المحبّ والمحبوب؛ هذا نظرُ مَن عرف أنّه ليس فى الوجود غيرُه ، *وهو قيوم إله واحد.
* وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول { إنّه لَيغان على قلبى حتى أستغفر اللهَ فى اليوم والليلة سبعين مرّة }؛ فكان ذلك لِتلقِّيه سبعين مقاماً بعضها فوق بعض ؛ أوّلها – وإن كان مجاوِزاً أقصى غايات الخَلْق – ولكنْ كان نقصاناً بالإضافة إلى آخِرها؛ فكان استغفارُه لِذلك.
ولَمّا قالت السيدة عائشة رضى الله عنها:” أليس قد غفر الله لك ما تقدَّم مِن ذنبك وما تأخَّر؟! لِمَ هذا البكاء فى السجود؟! وما هذا الجهد الشديد؟! ” فقال حضرتُه { أفلاَ أَكون عبداً شكورا؟! }، ومَعناه أفلاَ أكون طالباً لِلمزيد؟! فكأنّ الشكر سبب لِلزيادة ، وهذا تفسير قوله تعالى { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم }.
جعلنا الله وإياكم مِن عباده الشاكرين الذاكرين.
والله يَقول الحقَّ، وهو يَهدى السبيل.